قال لي زميلي في العمل بتلقائية صافية وكأنه يحدث نفسه: الحياة لم يعد لها طعم .. كانت المرارة تقطر من فمه مترعة بحرقه الصدق حتي أنني لم استطع النوم بسهولة في تلك الليلة.. وحين خيل الي انني غفوت رأيت الاطفال الذين كانوا يلعبون أمام البيت منذ عشرين عاما وقد تزوجوا وأنجب بعضهم, ورأيت الرجال الذين كنت أناديهم بلقب العم وقد شاخوا ومات بعضهم والنساء اللاتي كان عبيرهن يهفهف في حنايا السلم وضحكاتهن تجلجل في أرجائه وقد شابت شعورهن وتهدلت جلودهن وصار الابناء والاحفاد محور أحاديثهن. التقينا جميعا في قطار يقوده بهلوان يتوقف به حيثما يحلو له التوقف ليعاود السفر بنا الي المكان الذي لا يعرفه مثلما لا يعرفه أحد منا. في محطة يلقون علينا الورد وتطلق النساء الزغاريد وفي محطة نسمع صراخا وعويلا, وفي محطة يأمرنا بالنزول لنرقص ونغني ثم يهرول مسرعا الي عربة القيادة يحثنا علي الهرب حين تنطلق مدافع وتنفجر قنابل وتدوي ضحكات ماجنة يعقبها نشيج مكتوم ويصبح راكب مخمور في سعادة ما أجمل الحياة! ويخيل الي أنني في تمام الاستيقاظ حين يطرق بابي زميل دراسة قديم حاملا معه عقد عمل في بلاد النفط والدولارات قائلا في حماس مقزز: هذه آخر فرصة في عمرك وأصعد الي الطابق الاخير من مبني مركز البحوث العلمية فانتقي غرفة مهجورة مظلمة اختفي فيها من الخوف متمنيا ان أري شبحا آدميا يخترق الصمت, حين يظهر عم سالم الساعي العجوز يبتسم لم في استسلام كاشفا عن البقية الباقية من زمن أسنانه الصفراء المثرمة متسائلا: أعمل لك شاي يا أستاذ؟ وتنبعث آخر فتيات من بين الظلمات فآخذها في حضني وأربت علي شعرها وظهرها وخدها وأقبل عنقها وتدفن رأسها في صدري قائلة في أمومة جميلة: غن لعمرك الباقي انني متيقظ تماما وفي كامل وعيي لكل مادار عبر السنين ابتداء من سلم المنزل وعبورا بالقطار الذي يقوده البهلوان وانتهاء بفتاة الاحلام.. والكل في لحظة بدأ وانتهي.. والكل في لحظة مازال كائنا.. وسألت زميلي في العمل: لماذا تقول انه لم يعد للحياة طعم؟ أجابني بنبرة لا تخلو من تهكم: أسأل الأرق المطل من عينيك انهمكنا في تناول الطعام وكلانا يجتهد قدر طاقته محاولا استشعار ما انصرم, في لذة دون جدوي أما النساء فلم ترد لحظة علي الخاطر ويهبط عم سالم من الطابق العلوي حاملا كوب الشاي ومعه اسنانه المثرمة وسنواته البائسة فأسأله في حيرة: لماذا تضحك يا عم سالم؟ نظر الي في بلاهة ولم ينطق لكن صوتا رخيما شديد العذوبة غني في مسامعي بصوت عم سالم: أنا لا أحزن علي الفائت ولا أعبأ بالقادم وكنت طائرا في السماوات العلا علي جناحي نشوة غامضة, غافلا عن صديقي الذي يبدو انه كان يثرثر في عصبية بكلمات مقتضبة عن شعوره بملالة الحياة بعد الخمسين وقد فقد الشعور بلذة الطعام والشراب والجنس مثلما فقد الاهتمام بمتعة العمل والسفر والقراءة ولقاء الاصدقاء وكلمات اخري غاضبة عن بدأ تآكل الاعصاب والعضلات والتهاب القولون وكلمات غائمة عن الدنيا والآخرة والموت والنار والجنة والملائكة والشياطين والفقر والغني والخط والسعادة و... و... و.. 2 الشريك حين تراكمت الخسائر بدأت الشركة في الانهيار, كان من الطبيعي أن يقاسمني شريكي الخسارة, ونفض الشركة ويذهب كل إلي حال سبيله لكنه تشبث بي بسبب غامض عارضا أن يتحمل الخسارة وحده ولسبب أكثر غموضا رفضت عرضه وقررت الاحتفاظ لنفسي بملكية الشركة الخاسرة. احتدم بيننا الجدل وتساءل: لماذا لا تنفصل أنت وأشتري نصيبك؟ تعجبت لمنطقه المعكوس الذي لا يخالف في حقيقته منطقي أنا الآخر: شريكان يثبت كل منهما بتحمل الخسارة سواء بمفرده أو مناصفة مع الآخر. قلت له وكلانا يغالب دهشته القدرية: انفصل انت وسأدفع لك ما تطلب! أجاب في ذهول مطابق لذهولي: دعني أفكر ليومين قبل أن اعطيك اجابتي الحاسمة وكان قد سبق ذلك اللغز الانساني اعلانات عديدة عن عرض هذه الشركة للبيع, لكن أحدا لم يتقدم لشرائها بسعر مناسب, بل ان مشتريا جاءني ذات مساء حين ظننت لأول وهلة أنه سيعرض ثمنا معقولا, لكني فوجئت به يقول لي بوقار غير مصطنع: كم تدفع حتي اقبل تنازلك لي عن هذه الشركة؟! لم أنفعل بغضب أو دهشة, وانما رحت أفكر بموضوعية شديدة البرودة في عرضه الغريب بعد قليل سألته بحياد تام: أنا البائع وأنت المشتري فبأي منطق أدفع لك؟ أجاب بثقة مطلقة: لست علي استعداد للحوار بأي منطق. إما أن تقبل وإما ان ترفض وما بيننا يفتح الله. أصابني ثباته اللامتناهي بالتردد, فلعله علي حق في ضرورة أن ادفع رغم جهلي التام بالسبب. حسمت الأمر بقولي: دعني أفكر.. أمهلني يومين قبل أن اعطيك الاجابة. لم يكن من العقل في شيء أن أحكي لشريكي قصة هذا المشتري البائع الذي يتحدث بحكمة سليمان.. قررت أن أتكتم الأمر, ولكني كنت أغالب في نفسي ميلا شديدا لتسليم الشركة بأصولها كاملة لهذا الرجل بعد أن أدفع له ما يريد. جلست في الموعد المحدد انتظر الرجلين. في غمرة شرودي برقت في ذهني فكرة قدسية دفعتني من مكاني الي عرض الشارع أركض في لهفة باحثا عن أقرب مسجد, توضأت بشغف وأمام القبلة توجهت الي من لا شريك له, صليت ركعتين استخارة. توسلت لجلالته ان يجعل لي آية حتي أحسم أمر هذه الشركة المحير, وعدت الي مكتبي تحملني اجنحة لا أراها وتحف بي هالة من نور. في البدء جاءني الرجل الحكيم فصرفته بأدب حين قال لي بإشفاق: إني أرثي لحالك ثم جاءني الشريك فسألته: كم تطلب؟ أمازلت مصرا؟ نعم أطلق رقما خياليا يفوق ضعف قيمة الشركة حتي يضمن بقائي شريكا له. أصابه ذعر شديد حين قبلت العرض وأضفت اليه نسبة من عندي! أصابه وجوم شديد بعد أن وقعت له الشيكات قبل أن ينصرف سألني بمشاعر لمحت فيها المودة ممزوجة بالحسد: لماذا تفعل هذا نفسك؟! كان النور طاغيا وكنت استمع في نشوة الي رفيف الاجنحة وأجبته بفرة كونية دون اراه. لقد اهتديت الي الشريك ---------------------------------- عن الكاتب صدرت له: الروايات المنشورة(41 رواية) جلامبو بوابة مورو عمالقة اكتوبر آلهة من طين( طبعة اولي) الشرخ الازمنة عاليها واطيها( طبعة ثانية) الفلوس عاليها أسفلها( طبعة ثالثة) حالة مستعصية كف مريم الشيء الآخر الحب والزمن- المقلب. المجموعات قصصية(9 مجموعات) قبلة الملكة رجل مختلف الموظفون الجائزة الممنوع والمسرح اقاصيص من السويد قانون الحب هو الخمسين. مجموعات قصصية تحت النشر رحيق الروح( اصوات أدبية) كتاب بعنوان نجيب محفوظ الانسان سلسلة نجيب محفوظ هيئة الكتاب1102 المسرح: الجبلاية( مسرحية كوميدية من3 فصول) الدكتور مخالف( مسرحية كوميدية من3 فصول) نماذج من الدراما الاذاعية والتليفزيونية: حجر النار العائد سباق الوهم بوابة مورو زارع الأمل رحلة الصعود والهبوط رجال من بحري الدكتور مخالف احلام الناس الطيبين عيون الليل مفتاح السر.. أهم الجوائز: 1 الجائزة الأولي عن رواية الازمنة في مسابقة احسان عبدالقدوس للراوية0991 2 جائزة الدولة التشجيعية في القصة لعام4991 عن مجموعة( الموظفون) الصادرة عام1991 عن مطبوعات اتحاد العرب بدمشق. 3 جائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية لعام1002 عن رواية كف مريم. 4 جاذزة اتحاد كتاب مصر في الرواية لعام0102 عن رواية المقلب.