حتي لا ينصرف ذهن القاريء الكريم إلي واحد من( خوالد) هذا الزمان وهم كثر والحمد لله! أبادر فأنبهه إلي أن( الشيخ خالد) الذي أعنيه هو خالد الذكر المغفور له من ربه بإذنه:( خالد محمد خالد 1920 1996) الذي مرت علينا ذكري رحيله الخامسة عشرة منذ بضعة أشهر حين كنا لانزال مأخوذين بنشوة انتصار ثورة25 يناير, مشغولين بها عن كل شأن آخر مهما بلغت أهميته, وهكذا مرت ذكري رحيل علم بارز من أعلام الفكر المستنير الحر دون أن نشعر بها ونحن نستظل بغمامة الثورة, في انتظار ماتجودنا به من غيث يروي أرضنا العطشي منذ عقود إلي ماء الحرية والكرامة الانسانية! لقد مر شهر بعد آخر دون أن يلتفت إلي ذكري رحيل خالد محمد خالد أحد من أصحاب الأقلام أو ممن يعملون في مجاله, ومن المفترض أن يكونوا أول من ينبهنا إليه في ذكراه وحتي في غير ذكراه إذا ماخلصت النيات! غير أن النيات ليست بخالصة في هذه المرحلة بالذات حيث تتأهب التيارات الدينية علي اختلافها ليل نهار وتعد العدة بليل لاقتناص مايمكنها اقتناصه من مغانم الثورة. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية لا تتورع عن إقصاء كل ما يعرقل سعيها إليها, وتجاهل سائر مايكشف عن تهافت دعاواها للناس من أفكار عقلانية أو رؤي دينية إصلاحية يقدمها الأحياء أو سبق أن قدمها الراحلون مثل خالد محمد خالد, وإلا فإن هذا المفكر الاسلامي الشجاع لم يكن في كتاباته أو مواقفه بحيث يصح تجاهله أو التعتيم علي ذكراه, فقد كان في يوم ملء السمع والبصر لا بجاه أو منصب تولاه ولا بكرس تبوأه أو سلطة عقد عليها كفه ليرغب بها ويرهب أو ليمنح أو يمنع! وإنما بقلمه الحر وعقله المستنير, وكفاه أنه كان ثالث ثلاثة من أصحاب الأعمال الفكرية, التي هزت المجتمع المصري في النصف الأول من القرن الماضي, وهم علي عبدالرازق في( الاسلام وأصول الحكم) وطه حسين في( الشعر الجاهلي) ثم خالد محمد خالد في( هنا نبدأ), والثلاثة أزهريون كما رصد أحد الباحثين هذه المفارقة! ومن يعرف سيرة صاحب( من هنا نبدأ) ويدرك الدور التنويري الخطير والمؤثر الذي نهض به في إصرار نادر وشجاعة قل أن تتكرر, لاسيما من خلال مؤلفاته الأولي, سيتفق معنا بلا جدال في أننا لم نكن في يوم ما أحوج إلي استعادة آراء خالد محمد خالد النقدية العقلانية ورؤاه الدينية الاصلاحية بقدر مانحتاج إليها في هذه الفترة العصيبة التي نعيشها, حيث يطلع علينا بين صباح وآخر من يريد أن يعيدنا باسم الدين إلي عهد الظلام من جديد! في حديث لا ينقطع عن الدولة الدينية أو الدولة المدنية ذات المرجعية الاسلامية, لا فرق, فكلاهما تعبير عن مفهوم ثيوقراطي( لاهوتي) واحد في مضمونه وإن اختلفت التسمية. كل كتاب من هذه الكتب الثلاثة أثار في حينه زوبعة في الحياة الفكرية والثقافية, فرفعت قضايا لمصادرتها وصدرت مؤلفات لمناقشة ماورد فيها من أفكار جديدة جريئة وتفنيدها. صدرت الطبعة الأولي من كتاب( من هنا نبدأ) مستهل1950 وبين يدي الآن الطبعة العاشرة الصادرة عام1963 وقد نال الكتاب نصيبه من هذا كله, فمثل أمام ساحة القضاء غير أن المحكمة قضت بالإفراج عن الكتاب في مايو1950 أما عن الردود فأهمها كتابان أحدهما للشيخ محمد الغزالي بعنوان( من هنا نعلم) والثاني للشيخ عبدالمتعال الصعيدي بعنوان( من أين نبدأ؟) وقد كان الأول أشد قسوة وأظهر ترهيبا في التلويح بسلاح سائر المتسترين بعباءة الدين في شتي العصور: سلاح التكفير, وهذا هو المتوقع من الشيخ محمد الغزالي الذي ذهب إلي تكفير فرج فودة فتم اغتياله, كما أفتي من قبل بمصادرة رائعة نجيب محفوظ( أولاد حارتنا) فعرضه لمحاولة الاغتيال الآثمة. ينقسم الكتاب إلي أربعة أقسام أولها بعنوان( الدين لا الكهانة), وفيه يميز خالد محمد خالد بين الدين والكهانة, فالدين علي إطلاقه إنساني الطابع لأنه يشجع علي حب الحياة ولأنه بطبيعته يؤمن بحرية العقل ولا يتعارض مع التوجه الديمقراطي, في حين أن الكهانة علي النقيض من الدين تقف دائما في مواجهة العقل والذكاء الانساني, فهي تراهن علي جمهور الأميين والبسطاء دون غيرهم لتشيع بينهم ثقافة الفقر والرضا بالتفاوت الطبقي والخضوع لاستبداد الحاكم, ولا تقدم لهم سوي ماتيسر من صدقات فتربيهم علي التسول وانتظار مايجود به المحسنون! وفي القسم الثاني وعنوانه( الخبز هو السلام) مناقشة مستفيضة للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي القائم علي الفساد والاستغلال, مما يؤدي إلي خلل اجتماعي يستحيل معه تطبيق حد السرقة في ظل أوضاع تفتقر إلي العدالة في توزيع الثروة, فما الفائدة في حماية كبار اللصوص والمفسدين في الوقت الذي تقطع فيه يد من يسرق رغيفا ليسد به جوعه! أما إذا شاعت العدالة وانتصب ميزانها بالقسطاس فإن الرخاء سيعم الناس كلها وحينئذ ستختفي السرقة من تلقاء نفسها دون حاجة إلي تطبيق الحد. ويأتي القسم الثالث من الكتاب بعنوانه( قومية الحكم) ولعله يشكل مع القسم الرابع المخصص لحقوق المرأة بعنوان( الرئة المعطلة) أهم أجزاء الكتاب وأكثرها جرأة, ويتناول هذا الفصل بالتحليل مفهوم( الدولة الدينية) ليفند الأسس التي يقوم عليها ويدحض مبرراتها واحدا بعد آخر, فإذا كانت دعاوي أنصار الدولة الدينية تتخذ من العمل علي تحرير البلاد وحمايتها مبررا فإن الدولة القومية بوسعها أن تنهض بهذه المهمة علي نحو أشمل وأكمل, أما إذا كانت الدعوي هي حماية الفضيلة عن طريق إقامة الحدود فإن التربية الحرة السليمة قادرة علي أن تقوم بهذا الدور خير قيام, وبصورة إنسانية لا نحتاج معها إلي رادع من الحدود الشرعية, فردع القانون وحده يكفي فضلا عن أن الدين, بما يمثله من حقائق خالدة لا تخضع للتغير علي مر الزمان واختلاف المكان, لا يحتاج بحكم طبيعته هذه إلي أن يرتبط بالدولة بما تمثله من نظام إنساني قابل دائما للتغيير والتطوير. ولعل من أعمق ماجادت به قريحة خالد محمد خالد في هذا القسم الأهم من الكتاب هو ماسطره تحت عنوان:( غرائز الحكومة الدينية), حيث يطلع علينا بتحليل ثاقب يقترب من حقائق علم النفس الديني وهو يعدد تلك الغرائز ليجمعها في سبع, وأولاها عنده هي غريزة الغموض إذ تستند الحكومة الدينية إلي سلطة غامضة لا يعرف أحد مأتاها علي نحو ما يعبر خالد محمد خالد, فهي في زعم أنصارها سلطة مطلقة ليس لأحد أن يناقشها, بل عليه أن يبدي مجرد السمع والطاعة لا أكثر, فإذا ألحفت في السؤال لم تظفر إلا بجواب من نوع: الاسلام هو الحل, أو القرآن هو الدستور, ويأتي الغموض هنا من أن القرآن حمال أوجه, فحين نشأت الفتنة الكبري ووقع الصراع بين علي ومعاوية كان كل فريق يحارب الآخر بالآية القرآنية ذاتها:, ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولي ونصله جهنم وساءت مصيرا] سورة النساء.115 وتتوالي الغرائز التي يراها خالد محمد خالد محركة للحكومة الدينية, فهناك غريزة محاربة العقل ومناصبته العداء ومعه مواهب الذكاء الانساني علي العموم, فلا موهبة للحكومة الدينية عنده اللهم إلا أنها عارية عن أي موهبة! وهناك غريزة التآمر علي المصلحين المستنيرين والغرور المقدس الذي يراه أفدح شرور الحكومات الدينية, ثم غريزة الواحدية المطلقة التي تجعل هذه الحكومات عاجزة عن قبول النقد والرأي الآخر, ثم غريزة الجمود الذي يجعل الاستجابة للحياة عند هذه الحكومات عكسية دائما وأخيرا, تأتي غريزة العنف أو القسوة المتوحشة كما يسميها خالد محمد خالد وكم من أبرياء راحوا ضحاياها! نري هنا كيف أن خالد محمد خالد في هذا القسم من الكتاب وهو الاخواني القديم قبل انطلاقه إلي آفاق أرحب, يعمد إلي تفنيد سائر الدعاوي المتهافتة التي لايزال يلفقها دعاة الإسلام السياسي طبقا لاصطلاحات اليوم. ومن هنا كانت حاجتنا الكبري إلي استعادة خالد محمد خالد وغيره من المصلحين وأنصار العقل في تراثنا القريب والبعيد, فهل تجد هذه الدعوة صداها لدي المسئولين عن النشر في مؤسساتنا الثقافية فيشمر أحدهم عن ساعد الجد وينسي نفسه قليلا, لكي يتبني إعادة طبع( من هنا نبدأ) و(هذا أو الطوفان)( ولله والحرية) و(الدين للشعب) وغيرها من مؤلفات الكاتب الكبير الراحل والمفكر الحر: خالد محمد خالد! المزيد من مقالات حسن طلب