إلي متي تبقي مصر الثورة منقسمة علي نفسها بين خيارين سياسيين, لم تنجح جلسات الحوار والوفاق الوطني في المفاضلة أو التوفيق بينهما, أو الخروج بموقف جديد يتجاوزهما معا يعيد ترميم صفوف الثورة المنقسمة علي نفسها, خيار الانتخابات أولا الذي يعتبر نفسه صاحب الأغلبية القصوي, يريد أن يختصر المرحلة الانتقالية إلي حدها الأدني, ويطالب بالذهاب فورا إلي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تجري في موعدها المحدد دون إرجاء, وتأجيل صياغة الدستور الجديد إلي ما بعد انتخابات مجلسي الشعب والشوري, ويؤكد أن الاستفتاء علي التعديلات الدستورية الذي تم في مارس الماضي يحصن هذه الحقوق من أي تراجع, لأن التراجع يعني النكوص عن إرادة غالبية الشعب التي تحصلت علي أكثر من07 في المائة من أصوات المصريين, ثم تيار الدستور أولا الذي يطالب بتشكيل لجنة تأسيسية منتخبة لصياغة دستور جديد للبلاد, يسبق في صدوره بالضرورة إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية, لأن الدستور الجديد هو الذي ينظم علاقات السلطات في نظام الحكم الجديد بعد إسقاط نظام الحكم السابق, ويعتبر ذلك الطريق الطبيعي والمنطقي الذي ينبغي أن يأخذه مسار الثورة, ويطعن علي صحة نتائج استفتاء مارس, بدعوي أن جماعة الإخوان المسلمين وتيار السلفيين وكل انصار جماعات الإسلام السياسي أحدثوا بلبلة واسعة في طول البلاد وعرضها, خلطت بين دعاوي الدين ومفاهيم العمل السياسي, وأشاعت بين العوام أن التصويت بنعم يضمن الحفاظ علي المادة الثانية من الدستور التي تحدد الهوية الإسلامية للدولة المصرية, رغم أن المادة الثانية لم تكن موضع أي خلاف, ولم تكن مطروحة علي الاستفتاء. والواضح أن لهذا الخلاف أبعاده العميقة التي تتجاوز كثيرا قضية المفاضلة بين الانتخابات أولا أم الدستور أولا, التي لا تعدو أن تكون قمة جبل الجليد العائم, تخفي تحتها تناقضا عميقا بين رؤيتين سياسيتين تتنازعان مستقبل مصر, تباعد بينهما شكوك وهواجس كثيرة بعضها قديم وبعضها حديث, كان من الطبيعي أن تخبو دلالاتها وسط الحشود الهائلة التي جمعت شباب الثورة في ميدان التحرير, يجمعون علي قضية واحدة رغم إنتماءاتهم المتعددة, إسقاط نظام الحكم السابق وإقامة حكم جديد أكثر ديمقراطية وعدلا لم تحدد ملامحه علي وجه مفصل, وتسيطر عليهم جميعا رؤي رومانسية حالمة بقدرة الميدان علي إنجاز مشاركة متوازنة تلم شمل الجميع, تحفظ للثوار تنوعهم وترسم برنامجا سياسيا لمستقبل البلاد تحدد الشرعية الثورة التي انطلقت من ميدان التحرير ملامحه الرئيسية التي اختصرها ثوار الميدان في قضايا اجتثات رموز الحكم ومحاكمة أقطابه, وتقويض أسس النظام السابق وعزل شخوصه, ومحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة والإبقاء علي جذوة الثورة مشتعلة من خلال الاحتجاجات المليونية التي أصبحت أداة الحوار الوحيدة لشباب الثورة مع المجتمع, ومع المجلس الأعلي للقوات المسلحة باعتباره شريكا أساسيا ساعد علي حماية الثورة, وضمن نجاحها وتعهد بالحفاظ علي أهدافها وأصبح بعد الثورة صاحب القرار. والواضح أيضا أن استفتاء مارس هو الذي نزع عن ميدان التحرير صورته الرومانسية التي تمثلت في وحدة كل قواه تحت شعار الشعب يريد إسقاط النظام ليتكشف بوضوح أن هذه الوحدة تخفي خلفها جماعات متعددة من شباب الثورة مائة جماعة أو أكثر, لم تستطع خلال أيام الميدان الثمانية عشر أن تصهر أفكارها في تيار واحد, وبقيت فصائل متعددة بغير حصر, لكل فصيل عنوانه وشعاره, يجمعهم فقط التزام عميق بإقامة دولةمدنية قانونية, لكنهم يختلفون في تفاصيل عديدة يشاركهم في الميدان قوة سياسية منظمة أبرزها وأهمها جماعة الإخوان المسلمين التي لم تشارك في أحداث ثورة52 يناير منذ بدايتها, لكن شبابها لعب دورا مهما في حماية ثوار التحرير يوم موقعة الجمل, تملك رؤية سياسية متكاملة وخبرة عميقة بدروب العمل السياسي وكوادر قادرة علي الالتزام والفعل, كما تمتلك مهارة في التكتيك واللعب علي تناقضات الآخرين, مكنتها من أن تصيغ علاقات حوار منظم مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة, بينما يتعثر حواره مع فصائل شباب الثورة المنقسمين علي أنفسهم زرافات ووحدانا, لكنهم يستعيضون عن هذا الضعف بإصرارهم علي أن يكونوا الأعلي صوتا والأكثر اجتراءات وتشددا يهربون دائما إلي الأمام من خلال شعاراتهم الزاعقة, ويعتقدون أنهم ضحية اتفاق منظم بين المجلس الأعلي وجماعة الإخوان, ويشكون دائما من أن المجلس لا يقف علي مسافة واحدة من كل القوي التي أسهمت في صنع الثورة, ويغضبهم كثيرا أن تخرج قوانين مهمة وأساسية إلي حيز الواقع دون تشاور مسبق اكتفاء بالتشاور مع طرف واحد, ويهددون بالعودة إلي الميدان في كل صغيرة وكبيرة, وكثيرا ما يصدمون الشارع المصري بتصرفاتهم التي تعكس في الظاهر نوعا من التشبث والعناد والرفض المسبق للرأي الآخر والرغبة في إحتكار الحقيقة, لكن كل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد أعراض لإحساس دفين يتسلط عليهم بأن الآخرين سرقوا الثورة من أيديهم. وبسبب الهبة المفاجئة لجماعات السلفيين ومحاولاتهم فرض الأمر الواقع في قنا والعياط وجامع النور وقري المنوفية التي شهدت عملية منظمة لهدم أضرحة لمساجد عديدة, وبسبب عمليات استعراض القوة التي يمارسها أنصار الإسلام السياسي, واللغة الفوقية الجديدة التي تستخدمها بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين, وإحساسهم المتزايد بأنهم القوة الغالبة في الانتخابات المقبلة, تزداد حدة الاستقطاب داخل المجتمع المصري, وتجد فصائل الشباب رغم تعددها تأييدا واسعا من جماعات وطنية عديدة, تشمل غالبية المثقفين ومعظم الجماعة القبطية وفئات واسعة من الطبقة الوسطي والمهنيين, وجمع ضخم من النساء, يقلقهم جميعا مصير الدولة المدنية التي ينشدونها ومصير الحريات العامة والخاصة وحقوق المواطنة, إذا أصبحت جماعات الاسلام السياسي الطرف الغالب في صياغة الدستور الجديد, وضيقت الخناق علي الحريات العامة والخاصة, وإعتبرت إيران النموذج والمثال الصحيح لحكم الثورة الإسلامية, حيث يتم تخوين المعارضة وتكفيرها, ويجري استخدام أبشع صور القمع لنفي الرأي الآخر وإعدامه, حتي إن يكون مصدره من داخل الحوزة الدينية الحاكمة, كما حدث مع موسوي وخاتمي, وكثير من آيات الله المعتدلين ذهبوا وراء الشمس لأنهم رفضوا السيطرة المنفردة لولاية الفقيه. وما يزيد من تعقيد الصورة أن الحوار الوطني والقوانين المنظمة لعمل الأحزاب لم تسفر بعد عن بلورة قواعد واضحة محددة, تنظمها قوانين شفافة, تعالج أوجه القصور التي ظهرت في التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها في مارس الماضي, بسبب الخلط بين دعاوي الدين ومفاهيم العمل السياسي, وتزييف وعي الناخبين من خلال شعارات توظف الدين لمصلحة جماعة سياسية دون الأخري, وعدم وجود قواعد واضحة تمنع قيام الأحزاب علي أسس دينية, خاصة أن الإعلان الدستوري الذي صدر عن المجلس الأعلي وجري الاستفتاء عليه, لم يتسع في بنوده لعدد من الضمانات المهمة التي تجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله, وتحول دون التفاسير أحادية الجانب التي تمنع تعدد المرجعيات الدينية لتنصب المرشد أو الفقيه وليا, له وحده القول الفصل في كل صغيرة وكبيرة عكس ما يقوله الأزهر الشريف أقدم المرجعيات الإسلامية وأكثرها مصداقية واعتدالا, ليس فقط لأنه يأخذ بالمنهج الوسطي, أو يضع مصالح العباد في مقدمة مقاصد الشريعة, أو يعلي مكانة العقل في التشريع الإسلامي, ويحتكم إليه عندما تتضارب الروايات والآراء, ولكن لأنه يعتبر الفقه الإسلامي حديقة يانعة يختار منها الأفضل والأيسر والأوسع رحمة بالعباد. فإذا أضفنا إلي ذلك كله غياب الأمن الذي لايزال يمثل أم المشكلات التي تواجه المرحلة الانتقالية رغم الوعود المتكررة لوزير الداخلية التي لا نري لها أثرا علي أرض الواقع, وشيوع الاعتقاد العام بأن الشرطة في حالة إضراب بطيء ومتعمد غضبا من المحاكمات التي يحرص عليها نسبة غير قليلة من المجتمع المصري لا تحس الطمأنينة الكاملة, وتخاف مما هو مقبل, ويسيطر عليها هواجس قلق شديد لم يستطع المجلس الأعلي وحكومة د/ عصام شرف مخاطبتها علي نحو جاد, يساعد علي بلورة رؤية مجتمعية تتجاوز الانقسام الراهن في الرأي العام المصري حول أولوية الدستور أو أولوية الانتخابات. ولا أظن أن الحل رغم صحة المطالبة بالدستور أولا يكون بالطعن علي شرعية استفتاء مارس مهما تكن أسبابه, لأن مثل هذا الطعن لا يصب في مصلحة الديمقراطية الهدف الذي يجمع عليه كل المصريين لأنه في استفتاء مارس ذهبت غالبية المصريين إلي صناديق الانتخابات بإرادتهم الحرة لأول مرة خفافا فرحين في سابقة فريدة, ووقفوا ساعات طويلة في الطوابير ليؤكدوا التزامهم بحقهم الديمقراطي في المشاركة, وانتصارهم للثورة... وإذا كانت الأغلبية يمكن أن تخطئ, وليس بالضرورة أن تكون دائما علي حق فإن من يصحح أخطاء الأغلبية ليس النخبة مهما يكن تميزها, ولكن الأغلبية وحدها هي التي تصحح أخطاءها. ورغم كل هذه المشكلات فإن إمكانية البحث عن حل وسط يحقق نوعا من التوافق بين دعاة الدستور أولا ودعاة الانتخابات أولا ينبغي أن تكون قائمة ومستمرة, لأنه ما من طريق آخر أمام كل الفرقاء سوي أن تكتمل مسيرة الثورة وصولا إلي ديمقراطية كاملة, وأن نعبر المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر والآلام, وفي الظن الصحيح لأن كل الظن ليس إثما إذا تعذر إصدار الدستور أولا أن صدور إعلان دستوري جديد أكثر اتساعا يضم مجموعة أخري من المبادئ الدستورية التي تعالج أوجه القصور في التعديلات الدستورية السابقة, وتحدد بدقة أكثر ملامح الدستور الجديد علي نحو يطمئن الجميع, وتكفل للانتخابات المقبلة ضمانات أوفر لا تجعل الشعارات الدينية في خدمة جماعة سياسية دون الأخري, وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله, يمكن أن يساعد علي ردم هذه الهوة وعبور هذا الخلاف, وليس في الأمر بدعة, لأن المجلس الأعلي أصدر إعلانين دستوريين يكملان بعضهما, وليس هناك ما يمنع من إصدار إعلان دستوري ثالث, يعالج نقائص التعديلين السابقين, وثمة سابقة دستورية مهمة حدثت بعد إلغاء ثورة يوليو لدستور عام3291, عندما أصدرت الثورة أربعة إعلانات دستورية متتابعة قبل أن يبدأ العمل في صياغة دستور4591 الذي يعتقد البعض أنه كان وثيقة دستورية جيدة لكنها لم تر النور إلي أن صدر دستور.6591 المزيد من مقالات مكرم محمد أحمد