مازالت تتردد في ذهني أصداء كلمات قيلت في مؤتمر الحوار الوطني, استوقفتني وهي تدوي في القاعة أثناء مشاركتي بورقة عمل بعنوان إعادة صياغة سياسة مصر الخارجية مع أمريكا في جلسات اليومين الثاني والثالث في محور علاقات مصر المستقبلية مع العالم, والتي شارك فيها16 من أبرز وأقدر خبراء السياسة الخارجية والأمن القومي. لم يكن يثير الانتباه لو جاءت هذه الكلمات من أي من الحضور في القاعة, لكن أن تأتي من كوادر نشيطه في العمل السياسي ومنتمية لأحزاب قائمة فهذا هو مربط الفرس وحين تبدو الأفكار التي تقال وكأنها حبيسة زمن ليس هو هذا الزمن, أو فكر لا يتعامل بحسابات السياسة, ومنطق المصلحة العليا للبلد طالما انك ارتضيت ان تنزل الي معترك السياسة. في السياسة.. ليس هناك فصل بين مايجري في الداخل ومايدور في الخارج, ونحن جزء من عالم تتدفق فيه تيارات جارفة من التغيير والتحولات, وتتبدل فيه نظريات سياسية واقتصادية تقليدية في عملية تفاعل تهييء لحدوث تغييرات كبري في العالم, في أوزان ومكانة دول في مواقع القوة ومراكز الجاذبية الدولية في علاقات الدول وكل هذا ينعكس بالضرورة علي الداخل يؤثر فيه ويتأثر به في عملية تبادلية التأثير. كان ضمن الكلمات التي قيلت ماهو تعبير عن رد فعل نابع من الشعور, دون أن يأخذ في الحسبان هذه التحولات داخل مصر وخارجها, فحين يقال ان دولا ما تتجاهل أو تستفزك أو تعاديك وان عليك ان تبني سياساتك معها علي أساس مواقفها هذه, فأنت بهذا تتجاهل مسئوليتك أنت من حدوث ذلك, فالعلاقة السياسية هي نتيجة أفعال طرفيها وليست من صنع طرف واحد, هذا طبعا باستثناء دولة تتخذ منك موقف العداء فعلا وعملا فهي تحسب في خانة العدو. والسياسة هي الفعل والمبادرة, وليس الالتزام بموقف رد الفعل, ومن هنا يتحدد موقف الدولة في علاقاتها بالدول الأخري قوة أو ضعفا, فإما ان توضع في حساباته كطرف فاعل ومؤثر أو ان تكون عنده ساحة مستباحة واذا اتخذت منك موقفا عدائيا فأنت معه رفعت لها الراية البيضاء استكانة وضعفا. والسياسة لها قاعدة أساسية تبني عليها وتبدأ منها, وهي استراتيجية أمن قومي. وهذا حق لكل دولة بل هو جزء أساسي والتزام وظيفي علي كل من يتم اختياره لحكم دولة وإدارة شئونها. والدول لا تنحصر حركة استراتيجيتها وراء خط حدودها الخارجية, بل تتجاوزه الي المجال الاقليمي, وأحيانا المجال الدولي الأرحب, اذا ماتمددت حدود مصالحها الي أرجاء العالم. وفي ساحة المجال الإقليمي أو الدولي تتحرك استراتيجيات عدد من الدول التي لها فيها مصالح, بحيث يكون مايجري فيما بينها هو نوع من تناطح استراتيجيات أو مايجوز تشبيهه بتلامس الأكتاف وهو نوع من المصارعة المشهورة في اليابان. وفي ساحة هذا النزال فإن الاستراتيجية الأكثر وعيا ومعرفة وقوة, هي التي تضيف الي رصيد بلدها علي حساب الانتقاص من رصيد الدول الأقل قدرة ومعرفة بالتغييرات المتلاحقة في مباديء استراتيجيات الأمن القومي ومفاهيم الأمن العالمي. أما إذا فرط طرف في واجب استغلال استراتيجية أمن قومي, فإن بقية الاستراتيجيات ومن طبيعتها الحركة الدائبة دون سكون سوف تقتحم ساحة مصالح هذا الطرف وتقيم لنفسها فيه مواقف وأوضاعا لصالحها.. عندئذ وقبل ان تقول ان هذه الدولة عدو لأنها فعلت مافعلته عليك ان تدرك ان النظام الحاكم في بلدك كان هو المتخاذل والمفرط في واجب ملتزم به تجاه وطنه وشعبه, لأنك لو امتلكت استراتيجيتك لاستطعت ان تصد أي قوة مهما كانت, وردعها وإرغامها علي إعادة النظر في سلوكها معك. وسأعطي مثلا: في20 سبتمبر2002 أصدر البيت الأبيض استراتيجيته للسياسة الخارجية بعنوان استراتيجية الأمن القومي الأمريكيةالجديدة, وعرفت باسم مبدأ بوش. وجاء ضمن بنودها مبدأ يقول صراحة:إن الولاياتالمتحدة لن تسمح بوجود اي قوة منافسة اقليميا أو دوليا وكان ضمن الدول المقصودة بها في آسيا, الصين, والهند. ولم تكن قد مضت سنتان حتي كانت الهند قد أقامت بناء داخليا قويا شيدته علي أساس خطة تنمية ناجحة حققت لها المقدرة الاقتصادية التنافسية التي غيرت موقعها في موازين القوي, ودفعت الرئيس السابق بوش نفسه الي التراجع عن مبدأ أساسي من مباديء سياسته الخارجية وقام بزيارة الهند معترفا بها قوة إقليمية ذات شأن ونفوذ, ووقع مع حكومتها مجموعة من اتفاقيات التعاون ومنها التعاون في المجال النووي. السؤال هنا يكون ونحن نتكلم عن مصر هو أين نحن من هذا العالم؟ وماهو موقعنا فيه؟ وماهي خططنا لكي تكون مصر احدي القوي مالكة القدرة الاقتصادية التنافسية وفق استراتيجية أمن قومي؟ وماهي وسائل تغيير ميزان القوي لصالحها, مع أي قوة خارجية أيا كانت؟ وألا نتجاهل ان مصر كان لها دائما بعد دولي سواء مايتعلق بدورها أو بنظرة الدول الأخري لهذا الدور, إما ترحيبا أو تخوفا أو عداء, ولكل من هذه الاعتبارات وسائل التعامل معها والتي يحددها وجود استراتيجية أمن قومي لمصر. خلاصة الموضوع: لقد نزل الي ساحة الترشيح للرئاسة كثيرون جدا جدا, عندئذ أليس هناك ضمان لتضييق مدي المنافسة حتي نضمن امتلاك المرشح لعناصر المعرفة السياسية ومفاهيمها وإدارة شئونها, بما يجعل الدولة في عهده لو صار رئيسا تكتسب قوة دفع مضافة نحو التقدم والنهضة والمكانة والدور الاقليمي والدولي, وان يكون لها الفعل وليس مجرد رد الفعل؟.. المزيد من مقالات عاطف الغمري