جلست في انتباه وتركيز لأرقب وأسمع وأتأمل في الحوار الذي أدارته مني الشاذلي في برنامجها العاشرة مساء, وكان الحوار أقرب إلي المناظرة بين الدكتور خالد منتصر الذي أتابع ما يكتبه في المصري اليوم مدافعا عن العقلانية والعلم والتسامح وحرية الفكر والإبداع, والأستاذ صبحي صالح ممثل جماعة الإخوان المسلمين الذي لا أعرف عنه كثيرا من قبل, سوي أنه من المحامين الذين يقودون حركة الجماعة في الإسكندرية, واختاره المجلس الأعلي للقوات المسلحة ليكون في لجنة تعديل بعض المواد الدستورية. ولم أقرأ للرجل كتابا أو مقالا لأعرف علمه, ولم أحضر موعظة له في بعض مساجد الإسكندرية وكانت حلقة برنامج العاشرة مساء هي المرة الأولي التي أتاحت لي أن أنصت إلي أفكار الرجل التي أظنها تمثل الجناح المتشدد في الجماعة, أعني الجناح الذي لا يزال متشبثا بضرورة إحياء الخلافة الإسلامية التي سعت الجماعة, ولا تزال تسعي, إلي تأسيسها وإقناع الناس بها, خصوصا علي ألسنة قادتها المتشددين والحق أنني لم أكن أتصور أن الأستاذ صبحي صالح يمضي في هذا المنحي الفكري الذي لا أظن أن قيادات مستنيرة من قيادات الإخوان توافقه علي ما قاله في العاشرة مساء فما قاله لم يكن في مصلحة الجماعة من حيث هي فصيل وطني, يدعو إلي الحوار المتكافئ مع الفصائل الوطنية الأخري, من منطق الندية والمساواة, لا من منطق الاستعلاء أو الترهيب. والحق أن كل ما قاله الأستاذ صبحي صالح ترك في نفسي انطباعا سلبيا, فقد كنت أري في حواره أولا نزوعا إلي إقصاء الآخرين المغايرين لمذهبه الديني السياسي وما أكثر ما حسدت الدكتور خالد منتصر علي صبره وسماحته وهدوئه المهذب, وقدرته الفائقة علي الرد العقلاني الهادئ المزود بالأدلة والحجج الدامغة, بينما كان الأستاذ صبحي صالح يلجأ إلي لغة انفعالية تعميمية, لاتخلو من اتهامات للآخرين, لا تختلف كثيرا عن لغة التكفير, فضلا عما فيها من مبالغات لا يعترف بها العقل أو الواقع التاريخي ومن هذه المبالغات, قول الأستاذ صبحي صالح في نبرة خطابية وثوقية إن الإسلام كان سيضيع لو لم يجئ حسن البنا الذي قام بتصحيح المسار وأعاد مصر إلي الإسلام وأعاده إليها وهذا كلام يمكن أن يقبله البسطاء من الجهلاء المتحمسين للجماعة, أو الذين أعماهم التعصب عن رؤية الحقائق الواضحة, فالعقلاء من الذين يعرفون تاريخ الفكر الديني في مصر, يمكن أن يعدوا من علماء الإسلام قبل مجيء البنا وبعد مجيئه أسماء لأعلام كبار, هم زعماء الإصلاح في الفكر الديني والمدني الحديث علي السواء ابتداء من رفاعة الطهطاوي(1889-1973) وأستاذه حسن العطار, في السياق الذي يمتد إلي الإمام محمد عبده(1849-1905) وغيره من كبار مفكري الإسلام ومصلحيه الذين سبقوا حسن البنا الذي بدأ من الفكر السلفي, ووصف جماعته بأنها جماعة سلفية, ولم يصل إلي علم الإمام محمد عبده ولا أشباهه أو تلامذته ولا أريد أن أحصي كبار علماء الإسلام إلي ظهور جماعة الإخوان المسلمين التي ظلت في تحالف مع الحكومات الاستبدادية, ابتداء من الملك فؤاد الطامع في الخلافة بعد سقوطها في تركيا, مرورا بصدقي باشا الذي أسقط دستور الأمة واستبدل به غيره سنة1930, وانتهاء بالملك فاروق الذي باركوا عهده, وظلوا في ركابه إلي أن جنحوا للإرهاب, واغتالوا النقراشي بعد الخازندار. ولا أريد أن أعقد مقارنة بين حسن البنا وأي من علماء الأزهر العظماء, فليس ذلك هو القصد, فالأهم هو توضيح أن من الإسراف التعصب لإمام جماعة دينية أو سياسية أيا كانت وتصويره بوصفه المهدي المنتظر, أو المنقذ من الضلال, فهذا كله غلو وابتعاد عن القصد ولو أعاد الأستاذ صبحي صالح تأمل ما قاله في تعقل, وبعيدا عن رغبته في استجداء تصفيق السذج لعرف أن هذا الوصف ومثله من تصريحاته الزاعقة يسيء إلي صورة الجماعة التي يمثلها, ولا يقارب بينها وبين عقول الذين يزنون الأشياء في إنصاف, ولا يستخدمون أفعل التفضيل أو مشتقاته أو موازياته في الموازاة بين المفكرين والمصلحين, فلكل قدره ووزنه بقدر ما بذله من جهد في تحقيق مصالح الوطن والتأليف بين طوائفه. ويتصل بهذا الغلو في تقدير حسن البنا ما ينسحب علي جماعة الإخوان المسلمين كلها, فالأستاذ صبحي صالح يتصور أنها هي الأكمل دينا من غيرها, ومن ثم فهي الأفضل وصفة أفعل التفضيل تنتقل منها إلي شبابها الأكمل الذي لا يجب أن يتزوج أي شاب منهم إلا من إخوانية مثله والحق أنني عجبت كيف يمكن أن ينزلق الأستاذ صبحي صالح إلي هذا الحكم الذي يقوم علي التمييز, والتفرقة بين المسلمين في طبقات, ومن ثم بحكم المنطق التمييز القمعي المضمر بين المسلمين وغير المسلمين ومن الذي قال إن الشاب الإخواني هو أفضل عند الله من الفتاة المسلمة غير الإخوانية لقد عرفنا من إسلامنا أن المسلمين كأسنان المشط, وأنه لا فارق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوي أما الدولة الحديثة التي تعتمد مبدأ المواطنة فلا فضل لمواطن علي مواطنة ما ظل الجميع متساوين أمام الدستور والقانون قد يقال إن الحديث عن مجموعة دينية, لكن من الذي يملك احتكار الأفضلية والتميز؟ وما الذي يمنع أن يكون الشاب غير الإخواني أفضل عند الله من نظير له إخواني؟ هل عدنا إلي عصر توزيع شهادات الغفران, وأضفنا إليها بيع شهادات التميز؟ ومن الذي يجرؤ علي أن يقول, في هذا الزمان, بمنع زواج مسلم إخواني من مسلمة غير إخوانية؟ الأستاذ صبحي صالح؟ ومن هو الأستاذ صبحي صالح حتي يمنح نفسه هذا الحق؟ أعلم أن القبائل المتعادية كانت تحرم الزواج من قبائل أعدائها, فهل نعود إلي هذا المنطق الجاهلي الجامد؟ ومن العاقل الذي يرفض أن يزوج ابنته, في هذا الزمان, من شاب خارج العائلة, لكنه جدير بالثقة؟ ودع عنك هذا كله فالعوار فيه بين, وما جاء بعده إدانة كالتكفير لكل من علي عبد الرازق وطه حسين, الأول لأنه خرج علي أصل من أصول الإسلام, وهو الخلافة التي نفي عنها علي عبد الرازق صفة الأصل, مؤكدا أن قضية الحكم في الإسلام هي خطط سياسية صرفة, لا دخل للدين بها, فهو لم يعرفها ولم ينكرها, ولا أمر بها ولا نهي عنها, وإنما تركها لنا, لنرجع فيها إلي أحكام العقل, وتجارب الأمم وقواعدها وبالطبع, هاج الملك فؤاد الذي كان طامعا أن يكون خليفة للمسلمين, وغضبت لجنة العلماء في الأزهر لغضبته, فاتهموا الرجل بالخروج علي الأمور المعلومة من أمر الدين بالضرورة, وسحبوا منه شهادة العالمية, وهو الأمر الذي كان يعني طرد الرجل من منصة القاضي في محكمة المنصورة الشرعية ومرت الأيام, وذهبت صنائع الملك فؤاد, وذهب علماء كثيرون, ومنهم المفتي الدكتور علي جمعة وكثير غيره من علماء المسلمين علي امتداد العالم الإسلامي إلي ما ذهب إليه الشيخ علي عبد الرازق, ولكن هجوم الأستاذ صبحي صالح مفهوم لأن مبدأ الخلافة الإسلامية وارد في تراث حسن البنا نفسه, ذلك علي الرغم من أن غير واحد من عقلائهم رفض هذا المبدأ, فحسن البنا رجل وهم رجال, وعقل وهم عقول وإني لأعجب كيف يمكن لجماعة تتبني الدعوة إلي إنشاء حزب مدني, هو الحرية والعدالة وتدعو إلي إقامة دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية, وتقوم بتعيين مسيحي نائبا لرئيس الحزب, وتتمسك بمبدأ الخلافة في الوقت الذي رفضه مستنيرون منها ولا أريد ذكر الأسماء منعا للإحراج. أما طه حسين فحكايته أطول, لكن الأستاذ صبحي صالح نسي أو تناسي الوقائع التاريخية, بأن النيابة العامة أدانت طه حسين في الجرم الذي ارتكبه بتأليف كتابه في الشعر الجاهلي( سنة1926) والحق أن البلاغات التي تقدم بها بعض المتشددين, دينيا, إلي النيابة, كانت تتهم صاحب في الشعر الجاهلي بإهانة الدين الإسلامي الذي نص الدستور علي أنه دين الدولة وكان أهم هذه البلاغات بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر, يتهم فيه الكتاب بالطعن الصريح في القرآن الكريم, وبلاغ من فضيلة شيخ الجامع الأزهر, مع تقرير رفعه علماء الجامع الأزهر إليه, يطلب اتخاذ الوسائل القانونية الناجعة ضد الطعن علي دين الدولة الرسمي, وتقديم المؤلف للمحاكمة, وبلاغ من حضرة عبدالحميد البنان عضو مجلس النواب. هذه هي تهم طه حسين, فهل برأته النيابة منها أم أدانته؟ قال الأستاذ صبحي صالح إن تقرير النيابة هو تقرير إدانة, وعلي ذلك فهو موافق ضمنا علي تكفير طه حسين مع أنه يعلن أنه ضد التكفير, ولا سبيل إلي الرد عليه إلا بالعودة إلي تقرير النيابة, لكي نكتشف أن الأستاذ صبحي لا يقول الحق, تماما كما فعل عندما ادعي أنه لم يكن يعرف اسم محاوره الدكتور خالد منتصر, وقد ردت عليه إدعاءه الباطل مني الشاذلي, في حزم من تدافع عن نزاهة برنامجها وصراحته في إبلاغ الأستاذ صبحي صالح باسم من يحاوره منذ الاتصال الأول. والبقية تأتي. المزيد من مقالات جابر عصفور