عندما أعلن الرئيس السوري بشار الأسد بخلاف أي حاكم عربي آخر معارضته الحرب الأمريكية علي العراق 2003 صار رئيسا شعبيا . , وعندما أيد المقاومة اللبنانية ضد عدوان إسرائيل في صيف 2006 بخلاف أي حاكم عربي آخر اعتبره البعض تفوق علي والده. في الحالة الأولي قاده موقفه لمواجهة مفتوحة مع الولاياتالمتحدة وفي الحالة الثانية قاده موقفه الي هدنة اضطرارية من جانب واشنطن وباريس بسبب تغير المزاج العربي العام لصالح المقاومة ضد إسرائيل والغرب ورغبة البلدين في احتواء هذا التطور. يواجه بشار الأسد اليوم التحدي الأكبر في الداخل بعد ما ارتبطت التحديات في الحالتين السابقتين ببلدين عربيين( في الخارج), والقائم بين نظامه من ناحية والمعارضة المتصاعدة من جانب آخر, لا سيما من ناحية تيارات إسلامية, وبات السؤال المطروح: هل سينحدر هذا البلد إلي حالة من الفوضي والعنف أم يرتقي النظام الحاكم به نحو التعددية السياسية والديمقراطية؟.. وهو السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح الآن في الدوائر السياسية الأمريكية, وسعي أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون البروفيسور كارستين ويلاند إلي الاجابة عليه في كتابه سوريا.. الاقتراع أم الرصاص؟ الذي صدر في طبعته العربية قبل أيام في بيروت, عن المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية بواشنطن ويشغل ويلاند عضوية هيئته الاستشارية. لعل من المدهش أن تفاجئنا افتتاحية الكتاب بتوصية ويلاند بأن علي الغرب ألا يتجاهل التقليد السوري المتين للعلمانية كون لسوريا شروط مسبقة بالنسبة للديمقراطية أكثر من أي بلد عربي آخر, وبتحذيره الغرب من نهج سياسة العصا وحدها في التعامل مع النظام السوري لأن ذلك حسب اعتقاده يشجع جماعات الإسلام السياسي من ناحية, كما يشجع النظام علي ممارسة العنف ضد المعارضة من ناحية أخري. ويفسر ويلاند: أن سوريا التي لا تزال تحت حكم بشار الأسد الشاب نجت من فترة عصيبة وأسوأ الأوقات( 2003 2008 ) قبل أن تتغير السياسة الامريكية والأوروبية إلي حد ما في التعامل معه حيث سوريا لاعب بارز في الشرق الأوسط, ومن دونها يبدو السلام في المنطقة مستحيلا, لكن خلال هذه الفترة( العزلة) حدثت تغيرات سلبية من الصعب إصلاحها لعل أهمها تعزيز سوريا علاقاتها الاستراتيجية مع إيران نظام ولاية الفقية الشيعي الذي لا يوجد أي شيء مشترك بينه وبين المذهب البعثي( نسبة لحزب البعث) العلماني, وتقوية علاقاتها مع حزب الله في لبنان كحليف إقليمي قوي, ومع روسيا العائدة( بروح سوفييتية) لكن ويلاند يشير في نفس الوقت إلي تطورات داخلية أخري منها تحقيق التيار الاسلامي نفوذا كبيرا في مجتمع علماني تقليدي من دون مقاومة من الدولة بشكل مشابه لما حدث خلال حكم والده ووضع النظام معارضيه في حالة من التوتر سيطرت عليه خلف القضبان أو دفعهم لطلب اللجوء في الخارج وهنا تبرز اشكالية واجهها النظام السوري وهي وصول المجتمع المدني( العلماني) إلي مرحلة عدم القدرة علي التعبير عن نفسها في نظام حكم علماني؟!!.. بسبب نفوذ حزب البعث الذي اتهم معارضيه بالخيانة. ومن ثم اكتسب بشار الأسد عدم رضا متناميا من جانب معارضيه بعد ما كان كسب شعبية ساعدته في التضييق علي بعض أفراد عشيرته وعائلته فالمصالح الراسخة لأفرادها بالإضافة إلي الأوليجارشية الاقتصادية الحاكمة مثلت عقبات علي طريق الاصلاح كون الكثير من الشخصيات الرئيسية( في النظام) تجني مكاسب من استمراره. ويضيف ويلاند: أن مازاد من العقبات وبطء الاصلاح هو تطبيق نظرية شبه صينية( استلهام التجربة الصينية) لتحديث الإدارة والاقتصاد من دون اعتبار لوجود حزب وحيد مسيطر, ولتحديث الفكر السياسي, فجاء الإصلاح علي شكل توصيات تكنوقراطية, بالتزامن مع إسكات القيادات المعارضة لحزب البعث سواء العلمانيون أو الإسلاميون بسبب اعتبار حماية السلطة هي الأولوية للنظام الحاكم. ويري ويلاند أن السياسة في سوريا في الفترة المقبلة ستكون مشوقة, وسط البيئة الدولية المتغيرة بشكل متسارع, مايطرح بدوره مصير تراث سوري متين من العلمانية والتسامح الديني أثبت تأثيره في بلدان بالمنطقة لاسيما في العراق, مشيرا إلي أن سوريا بلد سريع التغير ويمتلك الكثير من الامكانيات لكن لديه أيضا الكثير من المجازفات والأخطار. علمانيون وإسلاميون ومستقبل الحكم في سوريا يمكن أن نقسم المعارضة للنظام في سوريا إلي تيارين رئيسين هما القوي اليسارية العلمانية, وقوي وجماعات الاسلام السياسي بظلالهم المختلفة, ويري ويلاند أن اليوم ربما يثبت أن بشار الأسد قد إقترف الخطيئة الكبري نفسها عندما ترك القوي المعتدلة وحركة المجتمع المدني وأهملها, في وقت يقدم فيه النظام الحاكم فكرة الخوف من الإسلاميين سببا لتأخير البلد, بينما كان يمكن لما وصف ب ربيع دمشق عام 2000 عند تولي بشار السلطة أن يمنح سوريا فرصة نادرة للتقارب بين النظام الحاكم والقوي المدنية العلمانية, وأن يستخدمه النظام لتقوية المجتمع المدني كقوة في مواجهة التيارات الإسلامية المتشددة, وعلي العكس فقد ساعد النظام المعارضة علي توحيد صفوفها وتجلي ذلك في تلك الخطوة التاريخية حسب وصف الكتاب ل إعلان دمشق الصادر عام 2005, حيث كان الإعلان الأول من نوعه الذي تصدره كل جماعات المعارضة بما في ذلك المسلمون المعتدلون حتي جماعة الاخوان المسلمين, ويطالب بإجراء اصلاحات ديمقراطية. ومنذ توقيع الاعلان صار مألوفا تعاون قوي المجتمع المدني مع الجماعة, وتوقفت معارضة بعضهم لبعض, وباتت الاتصالات منتظمة بينهما, ووقع إسلاميون علي بعض منشورات العلمانيين المعارضين! ويعد التراث العلماني لسوريا هو ذاته مبعث طمأنة حسب مؤلف الكتاب إلي احتمالات تولي الإسلاميين السلطة في سوريا, كون التيارات الإسلامية قد نبذت الأصوليين لاسيما في السعودية, خاصة بعد أحداث11 سبتمبر 2001, ويشير إلي قول الناشط السياسي زعيم حركة المجتمع المدني ميشيل كيلو الي أن هؤلاء لم يعد لديهم مصداقية في العالم الإسلامي, حتي إيران لم تعد نموذجا للمسلمين المؤمنين, ويوافق الفيلسوف السوري صادق العظم ميشيل علي ذلك بقوله: أن الإسلام الأصولي سار بطريق الانحدار منذ أحداث سبتمبر, فإذا كان هناك تغيير في سوريا, فإن فكر الإسلام المعتدل سوف يسود ضد فكر الإسلام المحافظ مما سيزيل مخاوف الأقليات الدينية من اضطهاد الأغلبية الإسلامية. هنا يعرج الكتاب داخل التيار الرئيسي بين جماعات الاسلام السياسي وهو جماعة الاخوان المسلمين, فيشير الي جناح معتدل تمثله قيادة الجماعة نفسها التي ترغب في التقرب من الولاياتالمتحدةالأمريكية, وجناح جهادي يعادي أمريكا والعلمانيين ويوزع الأقراص المدمجة المفعمة بالشعارات الجهادية الأصولية المعادية للولايات المتحدة, وفيما الخلافات بين الجناحين بعيدة عن الحل, فإن الجناح الأول يكسب إرضاء ودعما متزايدا كتيار معتدل في أوساط السنة الملتزمين وبين سكان الريف كقواعد اجتماعية أي في المناطق التي كان حزب البعث أرسي فيها قواعده الشعبية! وفي ضوء ذلك التشريح السياسي والاجتماعي فإن السؤال هو: من سيستطيع ملء فراغ السلطة بسرعة أكبر في حالة حدوث تغيير نظام الحكم في سوريا بشكل مفاجئ؟ يجيب ويلاند: أن هناك أربع قوي رئيسية علي الساحة هي القوي العلمانية, وقوي المجتمع المدني الحديث, والحركة الإسلامية المدعومة بدولارات النفط, وجماعة الإخوان المسلمين المعتدلة. البديل الإسلامي الجديد الي جانب تلك القوي يشير ويلاند إلي أن هناك قوة إسلامية أخري في سوريا ظهرت قبل فترة وتنمو وتقدم نفسها بطريقة أكثر اعتدالا من الجماعة, ويمثل الشخصية المحورية في هذا التيار الشيح محمد حبش مدير مركز الدراسات الاسلامية بدمشق وحفيد مفتي سوريا الراحل أحمد كفتارو, وهو سياسي مستقل. وقد اكتسب حبش مكانته من أفكاره المستنيرة حول تجديد الفكر الإسلامي حيث يري أن الانسان هو إنسان خير مادام يفعل الخير بصرف النظر عن ديانته, وأن الانتماء للديانة الإسلامية ليس شرطا لتحقيق الإصلاح, والاصلاح يتسم بعدم الصواب فالإصلاح يتحقق بالمعاملات بين الناس وليس بإصلاح العلاقة مع الله من خلال مقاطعة الآخرين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.وفيما لا يحظي التيار المتجدد الذي يمثله حبش بتأييد الأصوليين الذين يعتبروه علمانيا أكثر من الدستور السوري, فإنه يحظي بتأييد من جانب الاسلاميين المعتدلين, والتيار المجدد والعلمانيين المطالبين بالدولة المدنية الحديثة بل في بعض الأوساط البعثية منذ أكد علي خاصية القومية العربية للإسلام. ويري ويلاند أنه في حالة التغيير السياسي في سوريا فإن هذا التيار الذي لم يتورط في السجل الماضي للأصولية والعنف مثل جماعة الاخوان المسلمين يمكنه أن يصبح اسلاميا حقيقيا علي غرار الديمقراطيين المسيحيين) في الغرب( ويقدر حبش نصف عدد سكان سوريا كذوي عقول علمانية, والنصف الآخر متدينون,80 في المائة منهم محافظون والباقي مستنيرون وفئة ضئيلة أصولية وأقل من واحد بالمائة منهم فقط مستعدون لاستخدام العنف. ومن ثم يعرب ويلاند عن الاعتقاد في أن حزب اسلاميا معتدلا يكون لديه الإمكانية والقدرة علي جذب المسلمين التقليديين, سيكون جذابا في سوريا لأولئك الذين يبحثون عن صلة بين الإسلام والسياسة من دون الرغبة في أسلمة السياسة.. وهذا حسب ويلاند هو جمهور الناخبين الذي نادرا ما استطاع المجتمع المدني والعلمانيون جذبه, لكنه يحذر في الوقت نفسه من أن الضغوط المتزايدة علي النظام السوري جعل الوضع الراهن لمصلحة الأصوليين حيث الحكومة تلعب بالنار من خلال قمع المبادرات الاسلامية في جميع الجهات, فيما لاتزال هناك حاجة لإعطاء قيمة سياسية واجتماعية للإسلام المعتدل في سوريا لكي يوفر ثقلا مضادا للأصوليين. طبخة بحص هو وصف يطلقه السوريون علي الحركة المتكررة لشخص دون أن تسفر هذه الحركة عن شيء) ضجيج بلا طحن( وقد تضاف التوابل لإعطاء الطبخة رائحة شهية لكن الحجارة تبفي حجارة.. هكذا هي حال الوضع في سوريا اليوم؟.. فهل يستمر الوضع هكذا غدا في البلد الواقع بين الفرات والمتوسط بآثاره الرومانية وبيوته العثمانية وصحاريه الصخرية وغاباته الصنوبرية؟!