لا يحتاج المرء لقراءة متخصصة في علم النفس السياسي لإدراك أن الفرد لا يستطيع أن يحيط بأحوال الوطن من خلال خبراته اليومية المعاشة, فنحن جميعا نعتمد في تكوين صورة ما يجري في الوطن علي ما نتلقاه من غيرنا لنستكمل ما استطعنا التقاطه من واقع خبراتنا المباشرة المحدودة, إلا أن التأثير الغالب في تشكيل الصورة يكون لذلك الذي نتلقاه من الآخرين. ولا نعني بتعبير الآخرين في هذا السياق أولئك الأفراد الذين نعرفهم ونتواصل معهم ونتبادل معهم الأفكار, بل المقصود أولئك القائمون علي تشكيل المزاج القومي العام أو بعبارة أكثر دقة تشكيل الصورة الذهنية للوطن. لعلنا لو تأملنا الصورة العامة للإعلام المصري الراهن لاستوقفتنا ثلاثة مشاهد تكاد تكون القاسم المشترك للبرامج التليفزيونية الحوارية وللمقالات وللأخبار في الصحف والجرائد علي تنوعها, ولتصريحات المسئولين, بحيث تكاد تشكل مجتمعة الصورة الذهنية الجاري تسويقها بإلحاح لا يكل: الأمن منفلت والبلطجة تتزايد. الشرطة في أزمة تعوق ممارستها لدورها. الاقتصاد ينهار. مشاهدة ثلاثة متداخلة متشابكة لو بدأت بتأمل أي منها أسلمك تلقائيا للمشهد التالي.. وهكذا. الاقتصاد منهار لهروب الاستثمارات والسياح, وذلك لأن أحدا لا يخاطر بالذهاب مستثمرا أو سائحا لبلد غير آمن, ولا أمل في استقرار الأمن مع غياب الشرطة, ولا سبيل لاستعادة الشرطة لدورها دون تقبل جماهيري لها, ولا يمكن للجماهير أن تتقبل ببساطة جهازا شرطيا ذاقت علي أيدي زبانيته الكثير, ورجال الشرطة يرون أنهم لايزالون يدفعون ثمنا مضاعفا, فقد سقط منهم ضحايا لا يهتم بتكريمهم أحد خلال دفاعهم عن السجون وأقسام الشرطة التي احترق العديد منهم داخلها, وأنهم مازالوا يواجهون الإهانة واللوم, بل والمحاكمة لمن يدافعون عن أقسام الشرطة وأيضا لمن ينسحبون مؤثرين السلامة. تري هل نبالغ إذا ما استخلصنا من تلك المشاهد الثلاثة أنه: لا مجال للحديث عن روعة مشهد ميدان التحرير يوم جمعة الغضب11 فبراير1102, فهو غضب لم يأت إلا بالإفلاس والرعب. لا مجال لمطالب بتحسين الأحوال المعيشية في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. لا مجال لمحاكمة المتهمين من رموز النظام السابق محاكمات عادية في ظل انفلات أمني يطال المحاكم نفسها. لا مجال للتفاؤل بشأن الانتخابات القادمة, فهي إن جرت في موعدها فسوف تجري في ظل ترويع من انفلات أمني يدفع المواطنين إلي إيثار السلامة والبقاء في بيوتهم, وربما لو تزايد الترويع قبل الموعد المحدد لإجرائها لأصبحنا مضطرين لتأجيلها إلي حين استقرار الأمن. وبرغم كل ذلك, وبرغم أن غالبية المصريين وفقا لما تنقله وسائل الإعلام, يؤكدون صدق تلك المشاهد الثلاثة, بل ويضيفون إليها, فإن سلوك المصريين اليومي يشي بأنهم لسبب ما لا يصدقون أن الأمور سيئة إلي هذا الحد: لقد اختفت اللجان الشعبية التي كانت تقوم بحماية الأحياء أثناء الثورة في ظل غياب الشرطة, واستمرت مطالبة الحكومة بتحسين الأحوال المعيشية, واستمر ازدحام الشوارع بالبشر. وفضلا عن ذلك, فقد تمت أخيرا الدعوة للتظاهر يوم الجمعة72 مايو, بينما أطلق عليه البعض جمعة الغضب الثانية وأطلق عليه البعض جمعة الوقيعة, وسبق ذلك تحذيرات شديدة من المسئولين تحذر من احتمالات قيام عناصر مشبوهة بمحاولة تنفيذ أعمال تهدف إلي الوقيعة بين أبناء الشعب المصري وقواته المسلحة. واتخذت القوات المسلحة موقفا فريدا غير مسبوق بعدم الوجود في مناطق المظاهرات نهائيا, وانطلقت المظاهرات بالفعل. وبرغم محاولة البعض اختزال مصطلح مليونية في معني رقمي بحيث يثور الجدل حول مدي دقة الرقم, فإن تعبير المليون في مثل هذا السياق, لا يعني سوي الكثرة النسبية, كالقول بأن القاهرة بلد الألف مئذنة أو أن الجزائر بلد المليون شهيد, وربما كان الاستثناء الوحيد في هذا الصدد هو الإصرار الصهيوني علي أن ضحايا هتلر من اليهود ستة ملايين علي وجه الدقة. لقد خلت أماكن التظاهر سواء من أجل جمعة الغضب الثانية, أو من أجل إدانة جمعة الوقيعة من أي وجود للقوات المسلحة أو قوات الشرطة, بل وكان اللافت للنظر بحق اختفاء البلطجية أيضا, وهو أمر يحتاج إلي تفسير جاد, وانتهي اليوم بسلام, وانفض الزحام. تري هل من سبيل لإعادة تركيب تلك المشاهد الثلاثة في ضوء السلوك المصري الفعلي دون تهوين أو تهويل؟ هل من سبيل لتأكيد أن تاريخ جهاز الشرطة لم يعرف غير الحفاظ علي النظام القائم وتنفيذ توجيهاته مهما كان شططها, بصرف النظر عن توجهات ذلك النظام, السياسية أو الفكرية, وأنهم كانوا يمارسون عملهم بشكل مهني منذ العهد الملكي حتي نهاية حكم مبارك, ومن ثم, فإن المشكلة لم تكن في الأشخاص, بل في النظم التي تحكم عملهم, ولذلك فلعل المدخل المناسب للتعامل مع تلك المشكلة هو تأكيد الطابع المهني لرجال الشرطة من خلال فصل السياسة عن الأمن, وتفعيل الدور الرقابي للسلطة التشريعية والقضائية علي مختلف قطاعات وزارة الداخلية. وأخيرا.. هل من سبيل للاحتفاظ بصورة ثقافة وقيم ثورة52 يناير مشرقة في وعي أجيالنا القادمة؟. [email protected]