ارتفعت أصوات كثيرة خلال المرحلة الأخيرة تطالب بأن يكون تولي بعض المناصب التنفيذية المهمة بالانتخاب, وليس بالتعيين ثم تعالت أصوات أخري ترفض وجود أشخاص بذاتهم في المناصب التي تم تعيينهم فيها. وإذا تركنا جانبا مما أحاط تعيين محافظ قنا من لغط ورفض من أعداد من أهالي المحافظة بسبب عدد من الحجج التي تنوعت وتباينت, فسوف نجد الحالة, وقد تكررت في محافظات أخري فور صدور حركة تعيينات المحافظين الأخيرة. وقد ظهرت ذات الحالة مثلا في عدد من جامعاتنا وكلياتها عندما تعالت أصوات جامعية في عدد منها, بجانب تنظيم أعضاء هيئة التدريس لوقفات احتجاج, تطالب ضمن ما تطالب به بضرورة انتخاب العمداء ورؤساء الجامعات كبديل عن تعيينهم من جهات قد تكون ذات إرادة سياسية مغلقة أو أمنية تسعي لإفساد الحياة الجامعية والتدخل فيها. وبلاشك أن إثارة أسلوب الانتخاب والمطالبة به بدلا من اسلوب التعيين, الذي يأتي عادة من المركز الإداري, بالنسبة لعدد من المناصب العامة ذات الصلة المباشرة بالمصالح اليومية والمستقبلية للبشر تحدث الآن بسبب خبرات سلبية سابقة, فالكثير من التعيينات كانت مبنية علي المحسوبية ومعايير سياسية بحتة وبالتالي كانت تصرفاتها غير ديمقراطية وبعيدة عن الشفافية في ممارساتها الإدارية اليومية في تناولها لمصالح الناس, بعض هذه قيادات كانت بالفعل تسيء استخدام سلطاتها الإدارية, وبالتالي يشعر الناس بالعجز عن التصرف, لأنهم لم يكونوا يملكون حق الاعتراض عليها أو تغييرها أو إقالتها أو حتي معارضة أفعالها أو محاسبتها. ولذا تعالت هذه الاصوات الأخيرة سريعا بعد الخامس والعشرين من يناير1102 مطالبة بأقصي ما يمكن أن تطالب به, بدلا من الشمال جاءت بالجنوب وبدلا من الغرب طالبت بالشرق, فبدل أن تفرض عليها القيادات الإدارية من أعلي بالباراشوت, تأتي هي, أي الناس, بها من القاعدة باختيارها أي بالانتخاب وعبر الصندوق السحري الحامل لاصواتها, فمن وجهة نظر الأصوات الجديدة هذه تأتي الانتخابات بالعناصر التي تريدها هي, والتي لا تستطيع قهرها أو نهبها. في إحدي الندوات التي تدعو إليها منظمات المجتمع المدني, وما أكثر هذه الندوات والمناقشات القائمة الآن, عبرت عن رأي غير القابل لفكرة تعميم وسيلة وطريق الانتخابات علي كل المواقع الإدارية كمواقع المحافظين, وحتي علي مناصب عمداء الكليات ورؤساء الجامعات, وقلت ضمن ما قلت, أن صندوق الانتخابات لا يضمن دائما ديمقراطية الإدارة وشفافيتها, فقوبلت باعتراضات شبابية كثيرة تبعتها مناقشة هادئة طرحت فيها كل الآراء من كل الاتجاهات. وأشرت كما اشير الآن, إلي أن أسلوب التعيين أو أسلوب الانتخاب, كأسلوبين مجردين, لا يضمنان الديقراطية, ولا الشفافية الذي يضمن القيمتين معا هي توافر القواعد السليمة لأسلوب التعيين ثم وضوح طرق المحاسبة العامة التي تحيط بالمنصب الإداري الذي يتم التعيين فيه. وينطبق ذات الشيء علي أسلوب الانتخاب, فكم من مرات جاء صندوق الانتخاب بأفراد لم يحترموا القيمتين أو أي منهما طوال فترة وجودهم في المنصب مستندين علي فكرة تباعد فرص اقصائهم بسبب وصولهم إلي مناصبهم بالانتخاب. من أمثلة تاريخ الجامعة المصرية, وتحديدا جامعة القاهرة أولي الجامعات, نعرف أن الأستاذ أحمد لطفي السيد كان أول رئيس للجامعة, كما أن من هذه الأمثلة تعيين الدكتور طه حسين عميدا لكلية الآداب ثم الدكتور مصطفي مشرفة عميدا لكلية العلوم وغيرهم من الرؤساء والعمداء ورؤساء الاقسام الذين طوروا من التعليم الجامعي في تخصصاتهم وتخرج علي أيديهم مئات المفكرين الأجلاء لم يأت هؤلاء الأساتذة الجامعيون بالانتخاب, وإنما كانوا من المعينين, ولكن الفارق الحاسم بين زمانهم وزماننا هو أنهم كانوا رؤساء وعمداء لمناصب جامعية في جامعة مستقلة يتصرف مجلسها ويعين المسئولين في مواقعها بناء علي قواعد علمية بحتة تستند علي جهد بحثي وعلمي وتعليمي قام به المرشح للمنصب الذي يتم تعيينه فيه, بجانب وجود معايير شخصية مهمة لابد من توافرها للقيادة الجامعية المرشحة للتعيين في المنصب, لذا فإن مبدأ استقلال الجامعة لابد أن يأخذ الأولوية في مطالبنا بحيث تصدر قراراتها بعيدا عن نفوذ الإدارة الحكومية وأجهزة الأمن, ومع هذا المبدأ, وفي تواز وتساو, يأخذ المطلب الثاني الأولوية الأخري, وهو وضع الضوابط والمعايير العامة التي تحيط بالمنصب, وتسمح بمحاسبة من يقوم عليه علي أساس النتائج العلمية والإدارية التي يحققها مع الإعلان عن هذه الضوابط وتلك المعايير. هذا عن المناصب الجامعية أما المناصب الإدارية العليا في المحافظات فإني أقف الآن وبشدة مع مبدأ تعيين المحافظ, ولكني لست مع أي تعيين, إنما أقف مع تعيين الخبراء والمتخصصين الذين يستطيعون الارتفاع بنوعية الحياة في محافظاتهم من خلال رفع إنتاجيتها وعلاج الخلل في خدماتها ثم التوزيع العادل للجهد بين المراكز والقري. وفي حالة الاختيار بين أسلوب التعيين وأسلوب الانتخاب في منصب المحافظ فإني وإن كنت انحاز لأسلوب التعيين إلا أنني من أشد المعارضين لأن نوجد, وبأيدينا, في بلادنا62 فرعونا جديدا في محافظاتنا لنضمهم إلي العدد الآخر من الفراعنة الموجودين في المركز الإداري الأكبر, أي في العاصمة, فالاخذ بمبدأ تعيين المحافظين لا يعني تركهم بلا حساب ومتابعة ومساءلة, والمساءلة في هذه الحالة لابد أن ترتبط ببنيان الإدارة المحلية الذي يسمح بوجود مجالس محلية منتخبة بالانتخاب الحر المباشر والشفاف تمارس هذه المجالس دورا برلمانيا محليا يناقش مخصصات الإقليم وطرق أولويات انفاقها والثغرات التي قد تتضح في الممارسة وجودة الخدمات التعليمية والصحية والتوازن بين ما يوجه للمراكز من جهد, وما يقدم للقري من جهد آخر, لذا فتعيين المحافظ أو انتخابه ليس القضية المحورية عندي, إنما الذي أسعي إليه هو أن يعمل المحافظ في إطار من إدارة وأجهزة ديمقراطية يستطيع من خلالها البشر المحليون العمل معه ومحاسبته والمشاركة في تحسين أوضاعهم المعيشية من خلال المحاسبة والمساهمة بالرأي والفكر والعمل. تحتاج مصر إلي إطار إداري قوي يربط بين أطرافها وزراعاتها لأن مسارها التاريخي يختلف عن مسارات بلدان أخري يتم فيها انتخاب رؤساء اقاليمها في تلك البلدان, تجمعت الأقاليم, بالسلم أو بالحرب, لتكوين الدولة. أما في مصر فإن الدولة قررت معالجة مركزيتها المطلقة بوضع نظام إداري لا مركزي, وأتصور أن مطلبنا هو أن تكون هذه الإدارة اللامركزية قوية ليس بإنفرادها بالأمور, وليس باستبدادها ولكن بقدر ما يحيطها من ديمقراطية وشفافية. المزيد من مقالات أمينة شفيق