الشقة التي كان يقيم فيها صديقي يحيي مروان في حيصبا باشا تطل علي البحر من مسافة تكفي للحيلولة دون أن يصل إليها الضجيج الصاعد من طريق الكورنيش. هذا الصمت المهيمن عليها هو الذي جعله يتنازل عن الشقة التي استقر فيها في حي الأنفوشي بعد أن تخرج في كلية الطب بالأسكندرية سنة.1953 مر عليه عدد من السنين في الشقة الجديدة قبل أن تلحق به أخته أرسلتها الأسرة إليه لترعاه بعد أن انقطعت عن مواصلة تعليمها, وتوفي أبوها تاجر الغلال المعروف في مدينة كفر الشيخ. كانت شابة جميلة ورثت عن أبيها قوامه الممشوق, وعن أمها شعلة ضاحكة في عينيها كأنها ظلت طفلة يدهشها كل ما تراه. لكن بعد سنة أو أكثر قليلا تزوجت من رجل كان يملك صيدلية كبيرة في حي الأنفوشي فقد تعود صديقي أن يأخذها معه كلما تجول في حيه القديم, كأنه كان يبحث عن شيء ضاع منه هناك ويريد أن يستعيده, وكانت الصيدلية إحدي محطاته في التجوال. لم يسبب له غياب أخته ضيقا أو اضطرابا في حياته. هكذا قال لي وهو يسلط علي نظراته الهادئة الصافية من تحت حاجبيه البارزين. كان ميالا إلي الوحدة, يجلس الساعات الطويلة أمام البحر بالنهار وأحيانا في الليل. يتأمل حركته, والتغيرات التي تطرأ عليه. يستمع إلي صوت أمواجه تتسابق لتصطدم بالصخرة التي يجلس عليها. بعد أن تخرج بسبع سنوات أو ربما ثمان التحق بشركة ملاحة كبيرة ليعمل طبيبا علي البواخر التي تعبر المحيطات بين الغرب والشرق, فأصبح يقضي حياته متنقلا بين البلاد. إذا رست الباخرة في ميناء يهبط منها ليجوب فيه. عندما يلم به التعب يدخل إلي بار ويحتسي الخمر حتي تغلق أبوابه, فينصرف مع فتاة من فتيات الليل. يبقي معها حتي يلحق بالباخرة قبل أن ترحل إلي ميناء آخر يكرر فيها ما فعله من قبل. إذا ظلت الباخرة راسية لعدة أيام ينطلق في رحلة إلي داخل البلاد, إلي مدينة آخري يستكشف ما فيها متجولا, متسكعا كأنه لا يلوي علي شيء سوي هذا التنقل المستمر يغذي به نهما إلي شيء غامض لايعرف كنهه, ربما مجرد الإحساس بأنه حي يتحرك, ويري, ويسمع, ويستنشق ما حوله قبل أن يعود إلي الباخرة, ويرحل من جديد. لم يفكر في الاستقرار, أو الزواج. جعلته حياته يشك في أن هناك امرأة يمكن أن تتحمل نوع العلاقة التي ستفرض عليها. أدمن التجوال, والتسكع, والشراب, وبنات الليل, والمتع السريعة التي لا تلزمه بشيء. لكن جاء اليوم الذي فرض فيه الزمن قانونه عليه. كبر ولم يعد قادرا علي التنقل المستمر, علي تحمل الشراب وحياة الليل, فحدث ما لم يكن متوقعا بعد أن قضي سنين طويلة لم يغير فيها الحياة التي كان يعيشها. استقر في شقته, وتوقف عن كل شيء سوي السير إلي السوق ليبتاع ما يحتاج إليه, أو الجلوس علي مقعد صغير يحمله معه, ويضعه علي صخرة أمام البحر. لم يعد يتجول في المدينة أو يرتاد البارات, أو يعاشر بنات الليل. شئ واحد لم يتغير في حياته هو إصراره بأن يظل وحده, مكتفيا بذاته كأنه وجد فيه ما كان يبحث عنه. لا يذهب إلي أحد, ولا أحد يزوره ما عدا أنا أقضي معه بعض الوقت بين الحين والحين ويتحدث معي عن بعض ما يمر بخاطره بعد أن ظللت طوال السنين صديقه الوحيد. كان قد كون لنفسه ثروة صغيرة عن طريق التهريب تعاون فيه مع بعض بحارة السفن التي عمل فيها, مع عاملين في المواني الذين تعرف عليهم أثناء تجواله المستمر والذين أصبح التهريب مصدرا أساسيا للدخل بالنسبة إليهم, كان التهريب يشمل الأسلحة, والمخدرات, أو المومسات, أو المهاجرين الذي يحملون وثائق مزوة, أو المجرمين, أو المحكوم عليهم بالسجن لأسباب جنائية أو أحيانا سياسية, أو تهريب الذهب, والمجوهرات, والآثار, والفرو, وسن الفيل. هكذا صار في وضع يضمن له حياة مالية مستقرة لا يحتاج فيها إلي البحث عن موارد للرزق. في ليلة من ليالي الصيف كنت أزوره فيها أصر علي غير عادته أن أبيتها في شقته علي أن أنصرف في الصباح لأتوجه إلي شركة استصلاح الأراضي التي كنت أعمل فيها. جلسنا علي الشرفة وأمامنا مائدة للعشاء كان قد أعدها بعد أن اتصلت به لأخبره أنني أفكر في المرور عليه. علي المائدة وضع أواني فضية فيها أرز مطبوخ بحيوانات البحر, وسمك تم طهيه في الفرن بالبصل, والكزبرة الخضراء, والجنزبيل, ومخللات الفلفل الأخضر, والباذنجان, وخبز أسمر, وسلاطة الأفوكادو, وزجاجة نبيذ أبيض من بلاد الألزاس ترسبت عليها شبورة خفيفة عندما أخرجها من وعاء الثلج. أحسست أنه لسبب ما أراد أن يحتفي بي. بعد أن أكلنا وشربنا ظل يحكي حتي زحف ضوء الفجر فوق المدينة, فلمحت العمارات تصطف كتلا سوداء عملاقة كالحراس ناحية باب شرق لتمتد مسافات علي ساحل الكورنيش. كان كمن اختزن الكلام طوال السنين ثم قرر أن يفتح السد الذي أقامه حول نفسه ليحميها. مازالت تتردد في أذني كلماته ينطقها بصوته الأجش قليلا كأنني سمعتها بالأمس. خلال السنين ظلت حياتي فراغا ليس فيها سوي الوحدة والصمت, سوي الكآبة واليأس, فراغا كان يمكن أن ينتهي بالانتحار أو فقدان العقل لكن عندما طالت بي الوحدة, عندما طال الزمن في الترحال فوق البحر, أو في بلاد بعيدة حدث لي تحول غريب. صرت بالتدريج أتنبه إلي أشياء لا يتنبه إليها الناس في حركتهم الدائبة الصاخبة من أجل البقاء في عالم يعصف بمصيرهم. صرت أتنبه إلي موسيقي الكون, إلي أصوات الطبيعة, إلي البشر والكائنات الحية التي تعيش وتتحرك فوق الأرض, إلي إيقاع الحياة في المدن التي أزورها, إلي الظلال والضوء ساعة الغسق أو الفجر, إلي السحب تعترض الشمس وتسرق ألوانها. جعلني البحر أعشق الوحدة ومع الوحدة عشقت الصمت. بفضلهما أصبحت أري, وأسمع, وأستنشق وأحس. حدثني البحر عن أشياء لا نسمعها من الناس الذين نصادفهم, أو نقضي معهم أزمنة ومراحل من حياتنا. أقف علي ظهر السفينة تشق المياه مثل الرمح تاركة وراءها زبدا أبيض علي السطح الأزرق الممتد. أستمع إلي الوشوشة التي ترتفع منه, إلي النبض الخافض المنتظم للمحركات يتردد في العمق, إلي همس النسيم عندما يسكن الجو, أو غضب الرعد ينقض علينا مع عواصف المونسون في محيط الهند, إلي لطم الأمواج علي جنبات السفينة وهي تصارعه, إلي صفير الريح وصراخ طيور النورسس. وإيقاعها, وحديث الناس السائرين في شوارعها, أو الجالسين في المقاهي والبارات يحتسون كئوس الخمر. أسمع الأغاني الخافتة تصعد في الليل. أسمع موسيقي الكون ليس له بداية أو نهاية فنعجز عن تخيله. الوحدة علمتني أن أري الليل تومض فيه أضواء عن بعد, أن أتأمل نجوم السماء وكواكبه, والقمر يلقي سائله الفضي علي سطح البحر, أن ألمح بريق الجوع في العيون وأنا أبتاع أشياء في السوق, أن أتنبه لجسد نحيل ينحني تحت الحمل الذي يرفعه, أن أتوقف أمام صورة رسمها فان جوخ. الوحدة حركت في داخلي أشياء سرت أكتبها فقد شعرت أن في داخلي أشياء أريد أن أعبر عنها. حدث شيء آخر في حياتي لم أكن أتوقعه. استقرت في الشقة المجاورة لي أم مع طفلين, صبي عمره ست سنوات, وبنت أكبر منه. عندما جاءوا لم ألتفت إليهم ما عدا أنه أمام بابي كنت أسمع صراخا مفزعا ثلاث أو أربع مرات في اليوم, يتكرر أحيانا في بداية الليل كأنه صادر عن طفل يضرب بقسوة كلما وصل المصعد إلي الدور الذي أسكنه. تصادف في أحد الأيام وأنا أفتح باب شقتي لأهبط في المصعد أن خرجت منه امرأة بدينة, شعرها منكوش, وعيناها الجاحظتان فيهما شراسة غريبة. كانت ترتدي روبا قديما تركته مفتوحا فظهر قميص نومها وصدرها منه. كانت تمسك الصبي الصغير من ذراعه وفي لحظة خروجهم أفلت من قبضتها واندفع من باب شقتي المفتوح إلي الصالة. في ذلك اليوم بدلا من الذهاب لشراء ما كنت أحتاج إليه عدت إلي شقتي ومن ورائي المرأة. حاوت أن تجر الصبي إلي الخارج لكنه أفلت منها مرة آخري, فتمكنت بعد جهد أن أقنعها بتركه معي حتي يهدأ. أجلستها في الصالة وظللت أتحدث معها لأشغل انتباهها. أحضرت شيكولا أعطيت جزءا منه للصبي وتركت الباقي علي منضدة صغيرة أمامها, لكنها رفضت أن تتناول بعضا منه رغم إلحاحي عليها. بعد أن هدأت الأمور انصرفت مع ابنها إلي شقتها. منذ ذلك اليوم أصبح الصبي يدق جرس بابي في أوقات مختلفة. يبقي معي بعض الوقت قبل أن تأتي أمه لتعيده إلي البيت. كان يحدث هذا عادة بعد مواعيد المدرسة التي يذهب إليها, وفي الأجازات. صرت أبتاع له بعض الحلويات, ثم أضفت إليها كتبا مصورة للأطفال أستخدمها في سرد القصص عليه, أو قراءتها معه. خصصت له سريرا يرقد عليه عندما يرغب في النوم. أحيانا كان يتناول الطعام معي وبمرور الوقت أقنعت أمه بأن يظل معي أحيانا طوال النهار. صرت أقدم لها بعض المساعدات المالية فقد اتضح أنها مطلقة, وأن زوجها تزوج من امرأة أخري, أن إمكانياتها ليست كبيرة. بعد أن انتهي من الحكي أدخلني في غرفة الصبي قال لي أن اسمه منير. كان فيها سرير ومنضدة, ومقعد, وخزانة كلها ذات حجم يناسب سن الصغير, مدهونة بألوان زاهية من اللاكيه, وعليها رسومات لحيوانات وطيور. علي الأرض الخشبية المدهونة فرش بساطا فسدقي اللون, وفي أحد الأركان وضع مكتبة صغيرة علي رفوفها كتب ومجلات للأطفال واسطوانات سي ديس. لم أر صديقي بعد تلك الليلة سوي مرة واحدة أثناء أجازة الصيف, فقد تم تعييني في منظمة الزراعة والتغذية الدوليةس زس. إلي المعاش عدت إلي الإسكندرية ولما سألت عن صديقي عرفت من أحد أبناء صاحبة العمارة التي كان يسكن فيها أنه أصيب بسرطان سريع النمو, وبعد شهور مات. لكن صباح أحد أيام شهر أكتوبر سنة2009 دق جرس الباب في بيتي ولما فتحته وجدت رجلا يوزع البريد السريع. كان معه مظروفا سلمه إلي ثم طلب مني التوقيع علي إيصال للاستلام. عندما فتحت المظروف وجدت فيه بطاقة باسم شخص يدعي منير بهجت وكتابا للشعر كان عنوانه المطبوع باللون الأزرق علي خلفية بيضاء غناء علي باب القبر, وتحت العنوان بخط أسود أصغر قليلا أشعار البحار يحيي مروان.