بطريقة ما,كنا قد سربنا له أن مصرعه سيتم بين الثانية ظهرا والثامنة صباح اليوم التالي, الوقت الذي يكون فيه خالي الطرف تماما. ليس علي قوة المكان الذي خرج منه, ولا علي قوة المكان الذي سيذهب إليه, فقط علي قوة الادارة المركزية, وتأكدنا من علمه بالخبر حين غادر مقر العمل في الثانية ظهرا, وصعد علي عجل إلي السكن, وجمع أغراضه التي ملأت بالكاد حقيبة, علي أمل أن يلحق بآخر وسيلة مواصلات, لكنه لم يلحق بها, فاضطر لأن يمد الخطي في خط مستقيم كي يصل إلي مكان آمن قبل أن يحل الظلام, فقد كنا أبلغناه, وبطريقة أخري أكثر غموضا, أن احتمالات القتل ربما تقل في النهار وترتفع مع قدوم الليل, لتصل إلي الذروة في هذا التوقيت من فترة السحر, ولأنه لم يقدر أنه سيفقد الاتجاهات من كثرة المضايقات خاصة مع قدوم الليل, فقد أصابه الهلع عندما اكتشف وقد صار مرة أخري في مواجهة النهر أن ما قطعه حتي منتصف الليل لم يكن سوي نصف دائرة. لم يتمكن من تعديل المسار, فمد رجله إلي المعدية دون أن يفكر, وجذب المعداوي الجنزير العابر للضفة الأخري دون أن يتكلم, فارتبك حيت أدرك أنه بذلك سيكمل الدائرة ويعود إلي نقطة البداية, لكن من الجانب الآخر للنهر, لاحظ المعداوي ارتباكه فسأله إن كان يبغي النجاة أم الحفاظ علي الاتجاهات, فقال: النجاة, فترك الطريق المواجه للمرسي, وأشار له في حسم نحو أشجار كثيفة وأحراش, وقال: خلليك من هنا! لئلا يطول شعوره بالأمان, قال أحدنا بصوت مسموع: إنه يكمل الدائرة! وأطلق آخر من خلفه سعلة, وأصدرنا أصوات بين الشهقة والتثاؤب, وأتبعناها بحفيف أوراق نباتات كأنما يشقها أحد بغية الوصول إليه, فأدرك أنه تسرع في الأخذ بنصحية المعداوي, وأن كلمة الدائرة التي سمعها منذ قليل لم تكن صدفة, فلم يكن بوسعه سوي ءن يهرول دون أن يلتفت إلي الخلف. كلنا نعمل بدأت وحرص, فلم ينتبه- إلا فيما بعد- إلي ماتحمله كلماتنا مع تعريض وإشارات جارحة إذ نتردد في أكثر من مكان, ومن أكثر من شخص, مع وجوده في ذات اللخطة, بما لايمكن اعتباره صدفه تتبعها نظرات غير متشفية تماما, ومصمصات شفاه غير مواسية تماما تصب كلها باتجاهه. لم يعر الأمر انتباها في البداية, فلمحنا إلي فشله في ثلاث زيجات دون إبداء للأسباب, وجنون أمه التي تكلم الموتي, وحكم عرفي قديم في حق أبيه بالطرد خارج البلدة, بانت عليه امارات الذهول, فأوحينا إليه بأن تنقله في العمل بين مناطق نائية ومجهولة لم يكن لضرورة تتطلبها مصلحة العمل, لم يصدق تماما, فلاحقناه, ما إن يستقر في مكان حتي يفاجأ بجواب نقل, وإخلاء طرف والاستلام في مكان آخر, حتي اقتنع بأنه نوع من تصفية الحساب ليس إلا. أكثر من الشكاوي متبعا التسلسل الوظيفي, فأكثرنا من تحويله إلي التحقيق, وأوصينا بألا يأخذ يوما واحدا جزاء, فيظل معتقدا كما نظر إلي ملف الأوراق الكبير الذي يحمله أنه سينتصر ولو في النهاية. حتي بعد أن استنفد الطرق الرسمية ولجأ إلي بريد الأهرام, كنا نعرف أنه ينفس عن نفسه ليس إلا, وحين امتنعت الأهرام عن النشر, ولجأ إلي صحف أخري, وقنوات فضائية, وإنترنت, كنا نزين له بطريقة غامضة أنه عثر علي بداية الخيط, الذي سيقوده كلما شده إلي أشياء مذهلة. *** كان يهرول والحقيبة في يده, فلم تعد مشكلته الآن في تأخر الترقيات, أو التحويل إلي الشئون القانونية, أو اللف كعب داير علي مناطق نائية, فقد اعتاد ذلك, إنما صارت مشكلته كيف يحافظ علي رقبته التي باتت مطلوبة فجأة, ويصل إلي الادارة صباحا دون أن يسير كجثة هائمة في النهر, تعيدهاخشبة مجهولة إلي وسط التيار كلما استراحت بجوار الشاطئ أو علقت بفروع أشجار مائلة. كان يجري وحيدا بين النباتات, وقد سقطت منه الحقيبة بعد المغرب, وانخلعت فردة حذائه قبل أن يستقل المعدية, وانخلعت الأخري وهو يتقافز بين القنوات والجسور, حتي اقترب من مبني ينبعث منه الضوء فخففنا الملاحقة. أمام البوابة الحديدية اكتشف أنه مستشفي صغير. كان مرهقا كما ذكر لنا الغفير الذي أشفق عليه وهم عن مقعده وفتح الباب, وفي اللحظة التي خطر له فيها أن المستشفي جاء في الوقت المناسب, وأنه سيمضي الليلة به كمريض متعب يشرف علي الهلاك,سأله الغفير وهو يحدق بدهشة في قدميه الحافيتين: انت تعبان يا دكتور؟ كنا نعرف أنه سيحاول جاهدا أن يتذكر ملامح الغفير, لكنه سيفشل, وسيقول إنه قطع المسافة من النهر حتي هنا سيرا, فيقدم الغفير له نعلين من الاستقبال, ويقول له متعجبا فيما يصعدان السلالم: لايوجد نهر هنا! فيحدق في هيئته المتعبة في زجاج النوافذ, ويصيبه الجزع. *** لم نشدد من الملاحقة إلا في الليل, أما ما حدث منذ الثانية ظهرا وحتي سقوط الحقيبة, فلم يكن بهذه الدرجة من العنف, كان الأذي يقترب, لكنه لا يقع في اللحظات الأخيرة لأي سبب. طوبة مرت كالسهم, فأخطأته بسنتيميترات قليلة, سيارة طائشة فاجأه احتكاك عجلاتها بالأرض, فقفز إلي الجهة الأخري بينما أخفي الغبار ملامح قائدها ولم يخف ضحكته, سطل خرسانة أفلت من يد عامل الونش في الدور الأخير, فتطاير الزلط في كل الاتجاهات كقذائف, لكنه لم يصل, يقترب الأذي ولايقع, فقد كنا نحسب بدقة الرعب الذي نحدثه في النهار خشية أن يزيد فيعتاده, أو يقل فيستريح, وكنا حريصين والشمس تغيب علي درجة من المضايقات أقل مما يحدث في الليل, وأعلي قليلا من تلك التي تحدث أثناء العمل: نظرات عدائية غير مريحة, ورسائل واضحة تؤكد أن اغتياله سيكون في الليل, وفي الوقت الذي نحدده وبطريقة غاية في البساطة, ومع ذلك فلن يتوصل أحد إلي أي خيط. سباب وشتائم غير مباشرة لمن سبقوه إلي العمل في هذا المكان, يتبين فيما بعد أنها مفصلة علي مقاسه, تهديد غير مباشر بمصير اثنين اختفيا من قبله, سيد سلام دهمته سيارة, ومحمد البهتيمي انقطعت أخباره فجأة حتي تسربت رائحة من مقبرة غير مغلقة تاهت فيها معالمه, حتي ارتبط نباح الكلاب في الليل حول السكن بأنها تحول دون دخول أحد ليقتله, مع طوبة أو اثنتين تضربان السكن في أوقات غير محددة من الليل وعلي فترات من نباح الكلاب, حتي إذا طلع النهار, عاد كل شئ هادئا إلا من نظرات حادة وغامضة وصامتة, ونحن نتقدم إليه بخطوط سير ليوقعها, واجازات, وأذونات تأمين صحي أو خروج مبكر. لم يكن الذين تعقبوه بإصرار منذ هبط الظلام ممن يتعاملون معه عن قرب بشكل يومي, لكنهم من المتعاملين معه بشكل عابر ويخطئ في أسمائهم, يهرول فيهرولون خلفه, يتردد عند مفارق الطرق, فيضغطون عليه حتي لا يقصد طريقا بعينه وتتوه السبل والاتجاهات, ويهيم علي وجهه, ويصير همه النجاة, لا يتوقف إلا ليلتقط الأنفاس حين تغيب أصواتنا, لكننا سرعان ما نضغط في المطاردة حتي تضيق بيننا المسافة, ويتعثر عندما يدوس أحدنا علي مؤخرة حذائه فتنخلع فردتا حذائه علي مسافات متباعدة. *** أثناء النهار كان يستغل الوقت لأداء العمل, ويتجنب نظرات الاستعداء في أعيننا, وكان يستغل الوقت الباقي في الوسن إلي أن يطرق أحدنا الباب بعنف فيفزع من علي مكتبه ليتبين من ابتسامة أحدنا الغامضة أنه يستأذن للذهاب إلي الإدارة ليسأل عن شيء ما, ورغم يقينه من أنه سيذهب إلي بيته, كان يوقع بالموافقة, إذ تكون آثار الفزع في قلبه من خبطته للباب, ومن الكلام الكثير الذي يخفيه خلف لسانه. لم نظهر له خطاب الإدارة إلا في الواحدة والنصف, فأخلي طرفه, كنا علي غير العادة مجتمعين: شئون عاملين وماليات ومخازن واجازات والختم, لم يطلب أحد منا إذنا ولا أجازة, حتي اللاتي ينصرفن ساعة مبكرا بسبب الرضاعة بقين, وتعمدنا الحديث عن الصيد, والمسار الدائري الذي عادة ما تسلكه الفريسة طمعا في النجاة, فإذا بها تتجه, وبسبب العمي المؤقت, نحو الشرك. أصابه الذعر عندما نزع أحدنا علي سهوة الخطاب من يده بعد أن ختمه زميلنا وابتسم ابتسامة غامضة, ثم ناوله له, فتأكدنا من وصول الرسالة التي دفعته لأن يضع الخطاب في حافظة بلاستيك ويدخل إلي الحمام فيخبئه بين ملابسه الداخلية والجلد, ثم يخبئ البطاقة الشخصية في الجورب, وكارنيه النقابة في جيب سحري بالبنطلون, ويكتب علي فخذه من الداخل وكتفه الأيسر اسمه وصفته والمهمة التي هو ذاهب إليها, لقد نجحنا في أن نترك فيه دافعا قويا لأن يترك خلفه ما لم ينج منا ما يؤدي إلي كشف غموض جثة تسير في النهر هكذا بلا رائحة. *** تقدمه غفير المستشفي حتي أوصله للأطباء النوبتجيين وعرفهم به وقال وهو يشير نحوه بفخر إنه كان يعمل في هذا المستشفي منذ عشرين سنة, فلاح له أنه ربما عمل فترة بهذا المستشفي أو مر به, وأكد كلام الغفير, وتظاهر بأنه كان مارا فأراد أن يدخل ويسلم, قالوا أهلا وجذبوا له كرسيا, فعصر ذهنه وسألهم عن الدكتور أحمدحجازي, فقال الغفير:معاش, ومصطفي عبدالحميد؟ هزوا رءوسهم بالنفي, وقال الغفير: تعيش أنت. حاول التعرف عليهم, لكنه لم يفلح فقد بدوا حديثي التخرج, وحلقة الوصل بينهم من ممرضات قدامي وأطباء غير موجودة. استأذن في الذهاب إلي الحمام, اتجه إلي السكن فلم يجد الحمام, في عودته سأله أحدهم بريبة: كنت رايح فين؟ ارتبك وقال إن السكن فيما يذكر كان في هذه الجهة: شقة من ثلاث حجرات, بكل منها سريران, يكفي لأن يبيت فيه ستة أطباء, فاسترابت فيه نظرات الطبيب وأشار إلي حجرتين في اتجاه معاكس, بينهما طرقة ضيقة, في نهايتها حمام صغير. فتح زجاج الحمام فرآنا بالخارج, نبطئ وندور خلف المستشفي, فأغلقه مرة أخري. عندما خرج من الحمام تساءل إذا ما كان النظام قد تغير, فلم يرد الطبيب ذو النظرات المستريبة, وحكي في ذات الوقت عن نصاب جاء منذ عام وادعي أنه طبيب ودخل معهم العمليات, وبات في السكن ليلتين, وفي الفجر أخذ حقيبة أحدهم وخرج, وما أدهشهم هو حفظه لهذا الكم الهائل من المصطلحات الطبية, هكذا أضاع الغفير الذي تعرف عليه فرصة مبيته كمريض علي أي سرير, ولم يعد ممكنا بعد حكاية النصاب أن يقدم علي طلب المبيت معهم في السكن كزميل, فقال: عن إذنكم. تحسر الغفير علي أيام زمان, وهمس إليه بأن أطباء اليوم لا يعرفون شيئآ عن حقوق الزمالة, وأمام الباب همس في أذنه بأن النصاب الذي ادعي أنه طبيب لم يكن نصابا, وإنما كان الدكتور سيد سلام, وأن سيارة دهمته علي بعد مئة متر من هنا, وأنها لم تتوقف ولم يعرف صاحبها,وظلت جثته بالمستشفي علي أنه النصاب مجهول الاسم والعنوان حتي عرفه الغفير. *** لم نرغب للأمور أن تصل إلي ما وصلت إليه, لكن ذلك ماحدث, كنا حريصين منذ وقت مبكر علي أن يكتشف بنفسه أثناء تصعيد مشكلته الصغيرة, أن إدلاءه بآرائه في الادارة المركزية لايصح, وأن ذلك هوالسبب المباشر لما يحدث له, لكنه لم ينتبه, وسار في اتجاه آخر, حيث درس القانون خصيصا حتي يتمكن من تحقيق النصر, وكان قد عثر في هذا التوقيت علي بداية الخيط الذي اعتقد أنه كلما شده سيقوده إلي أشياء مذهلة, فأضاف إلي القانون دراسة الإعلام وصعد الأمر مستعينا بالصحف ووسائل الإعلام والفضائيات تحمس له بعضهم وأهمله آخرون, فدرس إدارة الأعمال, وحصل علي ماجستير في الادارة وتنمية القوي البشرية, لكنه حين وجه رأسه لأعلي, اكتشف أننا متغلغلون في كل ما يحيط به, فأصابه الارتباك, وكان ينبغي وقد رأي الأمر كذلك أن يرتدع, لكنه أكمل, ولم تصلح معه نبرات التهديد غير المباشر, ولا النقل المفاجئ إلي مناطق نائية بهدف إرهاقه, فبدا عنيفا منذ رآنا, واتهم مدير الإدارةالمركزية بالفساد وبأننا أذرعه الطويلة ومعاونوه, هنا وعلي وجه التحديد, كان لابد أن يعلم أن الصراع صار علي رقبته, وأن يعرف بحتفه علي نحو دقيق, فلا يكون عليه وهو يري النهاية قادمة سوي أن يقاوم, لا لينجوا, وإنما ليترك أثرا علي أن هناك جريمة تمت. *** كنا ندرك بعد أن تجاوز المئة متر ولم تدهسه سيارة, أنه سيتذكر محمد البهتيمي الذي اضطرته الملاحقة لأن يختبئ في مقبرة مفتوحة, ووضع رأسه علي قالب طوب لفه بخرقة ثم نام, فيهرول, كانت قدمه تزل عن الطريق فيعود كأعمي إلي جادته, انخلعت فردة من نعل المستشفي فلم يبال, وحين جذبناه من هدومه ثم أفلتناه, تعثر وانخلعت الثانية, فاستكمل بدونها ونحن في أثره, نوجه نصالنا إلي ظهر قميصه الذي يملؤه الهواء, مستمتعين بالإرهاق الذي نسببه له, وبأدائنا رغم المشقة,,فلم يكن مثل سيد سلام الذي لم يكلفنا سوي نصف لتر بنزين وسيارة نصف نقل مسرعة, ولامحمد البهتيمي الذي لم يكلفنا إلا قفلا وضعه أحدنا بباب المقبرة ثم نزعه بعد ثلاثة أيام. فجأة أضاء نور في الأفق, تبعته خرفشة. كحة كبيرة جعلتنا نتوقف, تمخضت الخرفشة عن أذان مفاجئ وسريع, فتراجعنا فيما كان يغذ السير نحو الأذان الذي بدا أنه إقامة صلاة في الميكرفون. *** لم نكن نتوقع أن يداهمنا الفجر ونحن نلاعبه بهذه الطريقة, فقد اقترب جدا من باب الجامع وأنس إلي نور المئذنة, وخرج رجل يتعجله ثم اتجه إلي الداخل ورفع يديه للصلاة, مما أصابنا بالاضطراب, وشعرنا للحظة أن مهمتنا قد تفشل بمجرد دخوله إلي الساحة, فلم يكن أمامنا من بديل, وهو يصعد الدرجات إلي الجامع, سوي أن يخترق النصل الحاد ظهره. نصل أشبه بحقنه, مؤلمة في بدايتها فقط, حتي إنه لم ينتبه لما حدث بعد ذلك, ولم يعرف ما إذا كان النصل مغروزا أم أنه خرج, لم يشعر بشيء, سوي أن اثنين منا كانا يسحبانه من تحت إبطيه بخفة, دون أن يشعر الشيخ الذي كان قد وصل إلي المحراب, ورفع يديه للصلاة. كان يتقهقر بين أيدينا عبر الدرجات القليلة, وبدا من عينيه وهو يلتفت إلينا متيقنا من اكتمال الدائرة, فامتدت أصابعنا إلي جيبه, وتحت الفانلة تنتزع الأوراق بدربة, تلامس قدماه ومؤخرته الأرض والزروع, وحين شعر ببرودة الماء, ارتعد بدنه, وبينما كان جسده يغوص نحو القاع خفيفا كريشة, كانت أهدابه مطبقة كباب ثلاجة مغلق, ويداه معقودتين علي صدره, كأنه علي بساط الريح, يأخذ راحته في سبات لم يشعر بمثله من قبل.