كانت صدمة مروعة. فقد اغتال جنرال مدجج بالكراهية للحرية والعدل الرئيس المنتخب لشيلي وأطاح بنظامه عام3791, وانفطر وجدان كاتب وروائي مشهور هو جابريل جارسيا ماركيز. وانفجر غضبه من الجنرال بينوشيه, الذي صار طاغية مثل أقرانه في أمريكا اللاتينية. ولم يكتم ماركيز غضبه, وإنما شحذ به خياله فتوهج برائعته الأدبية خريف البطريرك التي نشرها عام.5791 وكشف في فصولها العالم السري للطاغية. وفضح الشعارات المراوغة والمضللة التي يخدع بها خلق الله, وأوضح سطوة زوجته السيدة الأولي ودورها في السلطة ومساعدتها أفراد عائلتها علي الثراء بطرق غير مشروعة. وتتجلي براعة ماركيز عندما يميط اللثام عن العلاقة المتأزمة والغريبة بين الطاغية والشعب المقهور. وبرغم أن السلطة الوحشية كانت توغل في قمع الجماهير وكتم أنفاسهم عبر الكوابيس الخانقة, إلا أن ماركيز كان ولايزال يؤمن بأن الدكتاتورية مآلها الأفول والاندثار. وأن وأد الطاغية آت مهما طال زمن الطغيان. والرائع حقا في رواية خريف البطريرك ان ماركيز يصور فيها الطاغية في كل مكان وزمان. ولذلك فعندما تقرأها هذه الأيام ينتصب أمامك الطاغية مبارك وزوجته وابنه الملقب بالوريث.. وكذلك الطاغية التونسي بن علي وزوجته, والطاغية القذافي وأبناؤه أمراء كتائب الموت. وكان ماركيز, وهو روائي من كولومبيا بأمريكا اللاتينية, قد وقع في عشق القراءة والكتابة منذ ان كان صبيا. ولأن أمه كان يتعذر عليها إعالته بسبب ما ألم بها من فقر مدقع. فقد تركته مع جدته وجده. وكان يطيب لهما أن يقصا عليه الأساطير وقبسا من تاريخ الميلاد. ويعزي اليهما فضل صقل خياله.. وابتداعه عندما شرع في الكتابة فن الواقعية السحرية.. ولعل روايته الجنرال لايجد من يكاتبه الصادرة عام7591 كانت فتحا عظيما في سيرته الأدبية. وعلي أجنحة الواقعية السحرية حلق عاليا, وكتب روايته الشهيرة مائة عام من العزلة وما أن هبط من مدارات الابداع ونشرها عام7691 حتي ذاع صيته. وكانت من أسباب فوزه بجائزة نوبل للأدب عام.2891 وقال آنذاك: كان أقصي ما أحلم به أن يدرج اسمي في الموسوعة السوفيتية, فقد كان وقتها يساريا ماركسيا. غير أن ماركيز نبذ الماركسية ربما إلا قليلا.. وقد أثلجت قلبه الثورة الديمقراطية في أوروبا الشرقية عام.9891 وهي ثورة كبري غيرت الخرائط السياسية في أواخر القرن العشرين ومهدت للقرن الحادي والعشرين. لكن رياح هذه الثورة الكونية لم تصل إلي المنطقة العربية. وكأن حكامها قد تمكنوا بفعل تعويذة شريرة من بقايا القرون الوسطي أن يصدوا رياح الديمقراطية. واستوحش الاستبداد وعربد الفساد في خلال ثلاثين عاما من حكم مبارك. وفي صباح يوم مشرق وجميل هو52 يناير1102 امتطي جيل الشباب صهوة تكنولوجيا المعلومات في مواجهة نظام مبارك وبغاله وجماله. وأطلقوا ثورة الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. وأسقطوا النظام الفاسد والمستبد. ويقضي الطاغية الأيام الأخيرة من خريفه ملوما ومحسورا ومكتئبا. ولا يجد من يكاتبه. ويتحلق من حوله المحققون ويمطرونه بأسئلة تراكم اجاباتها ملفات الاستبداد والفساد وافساد الحياة السياسية.. رائع.. ان الزمن المصري الجديد يبدأ الآن وغدا. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي