لم يخطر في ذهن أحد, حتي في الكوابيس المفزعة, أن سيدة القصر, زوجة الطاغية, كانت تتسلل فجر كل أربعاء, من قصر الرئاسة لتنفيذ مهمة مشينة هي سرقة سوق المدينة. ولم تكل السيدة ليتسيا أو تمل من تكديس الأموال في خزائن سرية. وكانت في ذات الوقت ترعي وليدها باعتباره ولي العهد. وبينما هي سادرة في غيها وجموحها, وقعت الواقعة. فقد فاجأتها هي والوريث حين كانا يتجولان في السوق كلاب شرسة, والتهمتهما التهاما. وكشفت التحقيقات أن مدربا محترفا روض هذه الكلاب علي الفتك بتمثالين بالحجم الطبيعي لسيدة القصر والوريث. هذا مشهد مثير وعنيف في رواية خريف البطريرك للكاتب والروائي الكولومبي جارسيا ماركيز, الفائز بجائزة نوبل للأدب عام2891, ويكشف فيها وقت نشرها عام5791 عن آثام الطاغية وجرائم الطغيان. فاذا كان استبداده وقهر أجهزة أمنه للشعب وجها وحشيا لنظامه, فان الوجه الآخر هو تفشي الفساد وعربدة اللصوص, وفي مقدمتهم أفراد أسرته وحاشيته وزبانيته. غير أن ماركيز أرخي عنان فن الواقعية السحرية للطاغية حتي مات. وكان نعيه له استبشارا وأملا عندما قال عندما اشرقت شمس يوم الأثنين استيقظت المدينة من سباتها علي نسمة رقيقة. وجرؤ عدد من المواطنين علي اقتحام القصر حتي يتحققوا من أن الطاغية لفظ أنفاسه الأخيرة, وأن النبا ليس خدعة. وهكذا أفلت الطاغية, في الحبكة الروائية لجارسيا ماركيز من محاكمته, لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للروائي العبقري نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل للأدب عام.8891 فمن المؤكد أن خياله المتوهج بالرؤي كان يتوق توقا شديدا لمحاكمة حسني مبارك في محاكماته الحوارية التي عقدها لرجال مصر من مينا حتي أنور السادات. بل انه حاكم سيدات مثل نفرتيتي وحتشبسوت, علي نحو ما أبدع في روايته أمام العرش الصادرة عام.3891 لكن العمر لم يمتد بمحفوظ كي يشهد ثورة52 يناير التي أطاحت بالطاغية, وزلزلت العرش المنتظر للوريث. وهي الثورة التي انعقدت في ظلها محاكمة مبارك ونجليه وعصبة من أعتي رجال نظامه صباح الأربعاء3 أغسطس.1102 ولم يكن في وسع ليتسيا سيدة القصر السابقة بطلة سرقة سوق المدينة فجر كل أربعاء أن تحضر المحاكمة. ومن المرجح أن نجيب محفوظ الذي كان يمقت الطغيان كل المقت, ويؤمن بالحرية ينبوعا للفكر الرصين والفن الرفيع والحياة الانسانية الكريمة.. قد اعترته الدهشة لرؤية مبارك وهو يرقد في استرخاء علي سرير طبي.. فقد كان من حاكمهم في روايته لا تبدو علي وجوههم أمارات التبلد, وكأن ما يحدث أمامهم, ويتعلق بنزاهتهم وشرفهم, لا يعنيهم. وانما كانوا مهما عظمت اعمالهم أو تدنت انجازاتهم لا يفارقهم الشعور بأنهم كانوا حكاما. وهنا يقول الراوي.. ان مشهد مبارك لم ينم عن أنه كان حاكما.. وربما يعزي ذلك إلي أن سنوات حكمه الأخيرة التي صارت استبدادا مطلقا وفسادا مفزعا, حيث هيمنت عصبة من الفاسدين وتوغلت في نهب ثروات البلاد, هي ما استقرت في وجدانه وطبعت تصرفاته. ولم يعد في وسعه تصور نفسه إلا زعيما لهذه العصبة, وانتهي به الحال قاتلا للثوار.. وهذا ما سوف تؤكده وقائع المحاكمة. ولم يبق لنجيب محفوظ ولكل أهل مصر سوي أن يعتصموا بما قالته ايزيس في السطور الأخيرة من الرواية.. ان يهب الله أهل مصر الحكمة والقوة لتبقي علي الزمان منارة للهدي والجمال. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي