عندما جرفت السيول العنيفة التي نزلت علي شبه جزيرة سيناءوالعريش, و ايضا علي اسوان, لم تجرف معها فقط كل ما بني بطرق الخطأ. سواء من مبان وانشاءات في داخل مخراتها التي رسمتها علي تضاريس الارض منذ الالاف السنين, ولكن قذفت ايضا في وجوهنا العديد من التساؤلات التي لم نسع للاجابة عليها قبل ان تحدث الكارثة مرة أخري, حتي ان التحذير الذي اطلقته جهات الرصد والمراقبة للتغييرات المناخية قبلها بساعات لم يكن كافيا لانقاذ ما يمكن انقاذه, لان الكارثة والخطأ الذي حدث كان اكبر بكثير من ان يتم تجاوزه في ساعات او ايام قليلة, لانه ببساطة خطأجسيم تراكم منذ سنوات طويلة.. ومن هنا كان من المهم ان نفهم اولا كيف حدثت هذه الكارثة في سيناءواسوان, وكيف ستحدث ايضا في السلوم خلال الفترة المقبلة عند هطول أمطار عزيزة, خاصة اننا نتوسع في بناء القري السياحية والانشاءات المختلفة في هذه المناطق دون فهم الطبيعة الطبوغرافية' تضاريس' الارض التي قد نكون نسيناها عشرات ربما لمئات السنين, ودفنت في الكتب القديمة, وللاسف فاننا نستمر في البناء فوقها دون الرجوع الي الجيولوجيين المختصين. ومن هنا كان اللقاء مع شيخ الجيولوجيين المصريين الدكتور عبده شطا, الذي يخزن في عقله ليس فقط هذا التاريخ العتيق لمصر والمنطقة العربية, ولكنه ايضا علي بينة بطبيعة الدورات المناخية التي تعرضت لها مصر والمنطقة العربية في الاحقاب الجيولوجية المختلفة. في بداية حواري معه, حرص الدكتورشطا علي ان يصحبني الي اعماق التاريخ الجيولوجي لمصر, والذي قد يبعد لاكثر من10 الاف سنة, حيث تشير الدراسات الجيولوجية الحديثة الي تعرض المنطقة لدورات مناخية بعضها رطب غزير المطر, وبعضها جاف شديد الحرارة وقليل المطر, وذلك منذ انتهاء العصر الجليدي الكبير في مصر منذ20 الف سنة, ودخول المنطقة فيما يطلق عليه العصر الحجري الحديث منذ نحو7 الاف سنة, حيث سادت دورات مناخية رطبة نسبيا, حيث وجدت اثار الانسان الحجري في المناطق الصحراوية الحالية, واعقب ذلك حدوث دورات مناخية شديدة الجفاف انهت الدولة القديمة في مصر القديمة. اذن مصر تتعرض لدورات مناخية رطبة, واخري جافة, وطول او مدة هذه الدورات متفاوت قد يصل الي الف سنة او دورات قصيرة تصل الي30 سنة او حتي شديدة القصرتصل الي7 سنوات, كما حدث ايام سيدنا يوسف' فيما اطلق عليه السنوات السمان والسنوات العجاف السبع'. وفي الدورات الرطبة تنزل الامطار بغزارة, وفي الدورات الجافة شديدة الحرارة تتكون الكثبان الرملية. وانا شخصيا عاصرت احدي هذه الدورات الرطبة شديدة المطر التي حدثت في وادي العريش عام1945, حيث تعرضنا لعاصفة مطيرة استمرت لمدة سبعة ايام متواصلة, وقدر المطر الذي كان نزل علي العريش وقتها بنحو مليون متر مكعب في الليلة الواحدة. وهذه الدورات المناخية ليس للانسان دخل فيها, وليس لها علاقة بالتلوث الذي يسببه علي سطح الارض كما يردد البعض, ولكنها مرتبطة بالتغييرات التي تحدث علي سطح الشمس, او ما يعرف بالكلف او البقع الشمسية, والتي تؤثر علي طبيعة المناخ بالمنطقة. في هذا الصدد قد نشير الي انه خلال هذه الدورات المناخية الطويلة ظهر ما نطلق عليه العصر الجليدي الصغير في منطقة الصحراء الكبري في القرون16, و17, و18 بعد الميلاد اي منذ200 سنة, وقامت هناك حضارات مثل حضارة السنغاي وحضارة الهوسا. الي اي زمن جيولوجي تعود مخرات السيول الحالية, وهل لدينا خرائط طبوغرافية بشأنها خاصة في مناطق سيناء والساحل الشمالي الغربي ؟ قال: السيول قد تحدث ليس فقط نتيجة الامطار الشتوية, ولكن ايضا نتيجة للامطار الصيفية, وكذلك قد تتأثر بالامطار الفجائية التي ليس لها ضوابط. وفي التاريخ الجيولوجي الحديث لمصر, كانت الامطار التي تسقط منذ حولي7 الاف الي5 الاف سنة غزيرة وثابتة نسبيا, وهذه الامطار هي التي رسمت شكل الاودية الحالية التي تخترق المواقع المختلفة علي ارض مصر, وهذه الاشكال معروفة وموثقة. فعلي سبيل المثال, نعرف ان في شبه جزيرة سيناء خمسة احواض تصرف الامطار, حوض يصرف في البحر الابيض المتوسط, وحوض يصرف في خليج العقبة, وحوض يصرف في البحر الميت, وحوض يصرف في خليج السويس, وحجم المطر الذي ينزل علي كل حوض معروف, وكذلك حجم المطر الكلي الذي ينزل علي سيناء معروف ويقدر بنحو3,5 مليار متر مكعب في السنة. كذلك هناك منطقة اخري معروف ان الامطار تنزل عليه في شكل سيول وهي منطقة الساحل الشمالي الغربي بين دلتا نهر النيل والحدود الليبية. وهذا الساحل يتعرض لامطار شتوية تقدر بنحو3,5 مليار متر مكعب في السنة, وبعض هذا المطر اتجاهاته معروفه في الاودية, وبعضها الاخر يتراكم فوق سطح الارض علي شكل بحيرات عذبة. والتوزيع المكاني للامطار قد يكون علي النحو التالي: جزء تمتصه الارض ويكون في حدود30%, وجزء يجري فوق سطح الارض ويتراوح ما بين20 الي30%, وجزء ثالث يتبخر, وبالتالي فان السيول تكون جزءا من الامطار التي تسقط, وليس كل الامطار. واذا ما هبطنا جنوبا في اتجاه اسوان سنجد سلاسل جبال البحر الاحمر التي تقطعها اودية تصب مياهها في نهر النيل مثل وادي العلاقي, ووادي خريط, وادي قنا, ووادي الاسيوطي, ووادي طرفت, وهذه اودية كبيرة جدا, وكذلك كان وادي حوف بالقرب من القاهرة يصب مياه امطاره في نهر النيل, اذن مسارات مياه الامطار التي تنزل علي مصر معروف اتجاهاتها سواء في اتجاه البحر الابيض او البحر الاحمر او في اتجاه المنخفضات الداخلية, مثل منخفض نهر النيل الذيي تصل مساحته الي250 الف كيلو متر. اذا كانت مخرات السيول معروفة منذ عشرينات القرن الماضي قبل التوسع في البناء, كيف حدثت الكارثة في العريش وغيرها في مناطق اخري في مصر ؟ قال: هذه الكارثة ليست مسئولية السيول, ولكنها خطأ المهندسين ورداءة التخطيط الهندسي, بسبب البناء العشوائي في مخرات السيول, فالمخطط الهندسي لا يستعين بالجيولوجي بسبب كبريائه الكاذب, واذا كان الخطأ قد حدث فانه كان من الضروري عمل قواطع في المخرات لتحويل مياه السيول الي اماكن اخري, او عمل سدود تحويلية, وللعلم, فان خرائط هذه الاودية والمخرات موجودة لدي مصلحة المساحة, و لدي هيئة المساحة الجيولوجية ايضا, وفي مركز بحوث الصحراء. في تصورك ما هو الحل الان بما يتفق مع طبوغرافية المناطق الجافة في مصر, وهل يمكن الاستفادة من مياه السيول ؟ قال: السيول يمكن ان تتكرر كل عشر او20 سنة او حتي مائة سنة, ومن الضروري ان نعرف كيف نستعد لها ونتعامل معها, ولانها غير ثابته, فانه لا يمكن الاعتماد عليها في التنمية الزراعية, لان التنمية لا تبني علي اشياء فجائية, فلابد ان تبني علي مياه ثابتة ومقننة, ومعروف حجمها, وكذلك حجم الاحتياجات الفعلية للتنمية. وحجم المياه الذي ينزل علي مصر من الامطار يتجاوز7 مليارات متر مكعب في السنة. اما كيف نستفيد من هذه الامطار او السيول, فلابد من عمل سدود ترابية للحد من سرعة سريان المياه في اتجاه البحر, وليس العمل علي تخزين هذه المياه عن طريق سدود تخزينية, وبهذه الطريقة نحمي الانشاءات الموجودة علي سطح الارض, والسماح بتسرب المياه داخل التربة حتي تغذي الخزانات الجوفية, ونستخرجها عن طريق حفر الابار من الارض. الي اين تذهب كل هذه المياه في الخزانات الجوفية ؟ قال: في شبه جزيرة سيناء يوجد اكثر من10 الاف خزان جوفي لتجميع مياه السيول, وكل خزان تصل سعته لاكثر من500 متر مكعب في السنة, اذن هناك اكثر من2 مليار متر مكعب من مياه السيول تتجمع في الخزانات يستفيد بها الانسان والحيوان, وفي الساحل الشمالي الغربي توجد اعداد كبيرة من الخزانات الجوفية يطلق عليها' الهربات'. هناك اودية ومخرات سيول قديمة توجد داخل القاهرة, كم عددها, وهل يمكن ان تمثل خطرا في حالة حدوث تغيرفي الدورات المناخية وهطول امطار غزيرة ؟ قال: هناك اودية كثيرة, ولكنها تتجمع في حوض واحد, واكبر هذه الاودية هو وادي الحلزوني الذي يصب مياه سيوله في' منطقة البركة' التي تقع بالقرب من سوق العبور في الوقت الحالي, وكانت اذا ما امتلات هذه البركة بمياه السيول يعيش فيها البط, اما وادي دجلة فله عدة تفريعات, ولكنه يصب في منطقة المعادي, حيث يوجد مخر قرب حي المعادي, والمخر الاخر قرب حلوان في وادي حوف, وكل هذه الاودية منابعها من فوق الجبل, وتصب في النيل. منطقة المعادي ووادي حوف يفصلهما عن نهر النيل الان مترو الانفاق, كيف نحمي المناطق السكنية المبنية في هذه المخرات من سيول مفاجئة ؟ قال: لابد من عمل سد تحويلي من عند بدء المخر في الاعلي, ولابد ان نعترف ان البناء في المخرات في المعادي, ووادي حوف خطأ تخطيطي من قبل المهندس, الذي كان لا بد ان يجلس مع الجيولوجي قبل عمل تخطيط للمنشآت. والخطورة المتصورة ليست اذا ما نزلت الامطار الغزيرة علي المخرات, ولكن لو نزلت هذه الامطار علي المرتفعات, او علي الهضبة الشرقية للقاهرة التي تبدأ من المقطم حتي جبل عتاقة بالسويس, فكل هذه الهضبة واحدة يوجد فيها مخرات للسيول. وهذه الهضبة متصلة, ولكن كل هضبة فيها خط تقسيم لمياه الامطار, فعندما تنزل الامطار علي جبل عتاقة سينزل جزء منها علي السويس وجزء علي جانب من جبل المقطم الذي يحيط القاهرة. وهذه الهضبة نطلق عليها' هضبة المقطم عتاقة', وهي جزء من هضبة المعزة الكبري. ومخرات السيول في هذه الهضاب معروف مساراتها واتجاهاتها, ولها خرائط مرسومه منذ عقد العشرينات من القرن الماضي'1920', فهي خرائط طبوغرافية, وتفسيرها الجيولوجي معروف الان, وهذه التضاريس ظهرت منذ60 مليون سنة, وهي معروفة للجيولوجيين, فهذه المنطقة كانت منذ30 مليون سنة يوجد بها براكين وزلازال عنيفة جدا.