«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكايدات مواطن مغمور
بقلم:أحمد الشيخ
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 02 - 2010

أحاطوا به من كل جانب‏,‏ وكل منهم يتباري ليرفع صوته أكثر ليوصله إلي مسامعه إلي حد أن اللغط جعله عاجزا عن تمييز الأصوات أو معرفة الغرض الاصلي لكل هذا الصخب‏,‏ لكنه كان محاصرا بهم ومخنوقا بالزحام رغم براح المكان الذي يقترب من مساحة ميدان متوسط الاتساع مقام علي عمدان وله سقف‏,‏ زحام لم يعتده بهذه الكثافة إلا أيام شبابه الغض عندما كان يشارك في مظاهرات الطلبة في براح الميادين والشوارع الواسعة ومنهم للسماء‏,‏ كان ذلك في الزمن القديم أيام سعد زغلول وتأسيس حزب الوفد‏,‏ يهتف ويرددون هتافاته أو يردد هتافاتهم ليطالب مثلهم بالاستقلال التام أو الموت الزؤام‏,‏ أيامها أصيب بضربة عسكري انجليزي جرحت حنجرته وتسببت في حجب صوته تماما لعام كامل رغم أن الجرح طاب‏,‏ كان يكتفي بالاشارة أو يكتب رغباته علي الورق وهو يشير بخجل إلي حنجرته لكنه تجاوز أزمته وبدأ ينطق بعسر العسر‏,‏ ثم تقدم أكثر بمرور السنوات بالصبر والسلوان‏,‏ لكن سينه تحولت إلي ثاء بالاضافة إلي لامه ورائه اللتين تحولتا إلي نون فصارت كلماته ألغازا تحتاج لمترجم أو عقول واعية وأدمغة صاحية تتمكن من فهمه بدلا من الاستفسارات المتكررة التي تطلب منه تكرار ماقاله لتفهم فيتزايد خجله ويلجأ إلي اعتزال الناس رغما من رغباته‏.‏
عايش في ذلك الزمن البعيد صراعات الاحزاب علي كراسي الحكم وسمع ماكان يقال في الخفاء وقرأ ماكان ينشر عن فساد القصر والحكومات المتتالية‏,‏ كان يكتب بعض المقالات أو القصائد ليعبر عن أزمته وأزمة وطنه ويسعي لنشرها أو تجميعها في كتب علي نفقته الخاصة‏,‏ مسنودا علي راتبه وميراثه من أرض كان يبيعها فدانا في إثر فدان ليعيش معزولا في مسكنه ومحزونا علي حالة حتي قامت في البلاد ثورة أجبرت الملك علي التنازل عن عرشه لولي عهده‏,‏ لعله في تلك الأيام نسي عاهته ورقص لأول مرة في الشارع‏,‏ شعر ببهجة لم يعايشها من قبل ولامن بعد‏,‏ فتحرك قلمه ليكتب قصائد جديدة تبشر الناس بالمستقبل الزاهر مثل غيره من الشعراء‏,‏ ينشرها فينال استحسان من يقرؤها‏,‏ لعل ماكان يكتبه وينشره خفف من مواجع جرحه وحقق له شيئا من التوازن وأنساه همه الشخصي وكأنما صار بينه وبين نفسه مسئولا من غير تكليف لمناقشة الحقائق البسيطة التي يكتشفها أو يؤمن بها مع الناس‏,‏ وبمثل ماكان بعيدا عن كل الأحزاب قبل إلغائها وإلغاء الألقاب كان يعيش متباعدا عن كل أشكال التنظيمات السياسية المعلنة والتحتية‏,‏ قائلا لنفسه في كل الأوقات أنه لايرغب ولايصلح لممارسة تلك الأدوار التي تعتمد أساسا علي الألسنة الفصيحة والسليمة‏,‏ كان يكتفي بدور الشاعر العاطفي أحيانا والذي يتأجج غضبا في أحيان أخري ضد وجود أي شئ يتصور أنه يعوق أحلامه أو أحلام الناس في مستقبل أفضل‏,‏ وبحساباته عن نفسه كان مولده الحقيقي قد تأكد له يوم جلاء المستعمر الذي كبس علي أنفاس وطنه لأربعين عاما بالتمام والكمال كان قد عاشها لتضاف إلي تلك السنوات السابقة علي ميلاده بالمعني الحرفي في قريته وبلاده مستعمرة لغرباء‏,‏ قرأ عن أزمنة الاستعمار القديم المتكررة في أيام الرومان والإغريق والبطالمة والفرس والأتراك‏,‏ وصولا لزمنه المعاش ليعرف ماجري لناسه‏,‏ وليته مافعل لأن انغماسه في تفاصيل التفاصيل في تاريخ بلاده اختطفه من نفسه وأفقده سنوات شبابه وأحلامه الخاصة ورغبته حتي في الزواج أو الخلفة‏,‏ متجاوزا في بعض الأحيان ماكان يشعر به من عجز في توصيل مطالبه أو أخباره‏,‏ وكان اليأس من صعوبة تحقيق رغبته كرجل بلا عاهة يدعوه الي التفكر في الموت كأي كائن حي يكتشف أنه عاجز عن مواصلة دوره في الحياة‏,‏ كان قد قرأ كتابين وعدة أبحاث علمية عن فكرة الموت بالارادة فراودته نفسه وقال لها إن متوسطات الأعمار في البلد أقل من الأربعين عاما وقد عاشها وتخطاها منذ سنوات فما هي مبررات الحياة؟ لعله كان يحس أيامها أنه لو واصل الحياة اكثر فسوف يفقد كل ماتبقي من ميراثه ويكابد العوز بينما يأخذ من الزمن اكثر مما يستحق لفترة لايعلمها إلا واهب الحياة والآمر بنهايات الأعمار‏,‏ لكنه علي الرغم من رغبته الشريرة ضد نفسه عاش وأقبل علي الحياة‏,‏ وربما توصل إلي فكرة معكوسة مؤداها أنه من حقه أن يعيش ليؤدي دور الكاتب أو الشاعر من غير مساحة ثابتة ليزرع في أدمغة الناس حلما أو يبشر بمستقبل‏,‏ يتواصل معهم بحسب ماكان يتصور من خلال الكلمات المكتوبة‏,‏ ويعيش وحيدا باختياره ومتباعدا عنهم في نفس الوقت بسبب ذلك الخجل الذي كان يعتريه وسط التجمعات التي تتكلم‏,‏ لأنه يتلعثم في الكلام ويثير ضحكات من يستمعون إلي سينة التي تحولت إلي ثاء معاندة لاتتزحزح وإن كانت أخف وطأة من لامه و رائه اللتين تحولتا الي نون فجة ومحرجة وكأنها مستعمر أبدي لابد فوق لسانه‏,‏ كان يواجه أحيانا بانتقادات لايملك الجرأة علي مواجهتها رغم مافيها من تشدد أوجمود في نظر الناس‏,‏ انتقادات ممن يطالبونه باستخدام كلمات قديمة أوعبارات عفي عليها الزمن وهجرها معظم شعراء عصره‏,‏ لكنه كان في نظر البعض الآخر منفلتا ورافضا لفكرة الالتزام بسياسات أو قواعد ضرورية لايحق له مادام يكتب وينشر أن يتجاهلها ليدخل في زمرتهم‏,‏ كان محاصرا بالتيارين المتصارعين ومصابا بالثأثأة والنأنأة معا‏,‏ لكنه اختار أن يكون وحيدا في هامشه المعزول ليتعايش مع واقعه الذي كان يتبدل بإيقاعات أسرع من قدراته وقدراتهم‏,‏ قائلا لنفسه أنه سوف يحاول أن يكون حرا وبشكل مطلق‏.‏
كان في السنوات الأخيرة يدرك أنه بلغ من الكبر عتيا كما يقول المتفيقهون الأصلاء في استخدامات اللغة التراثية المؤكدة الجذور‏,‏ والتي كان قد تخفف منها خطوة في إثر خطوة وتجاسر علي استبدالها بكلمات لها جذور شعبية تندس بين سطوره في غفلة منه‏,‏ ويقدمها لمن يقرؤها ممن يثق في رأيهم قبل أن ينشرها فيؤكدون له أنها صالحة وجسورة أيضا‏,‏ لكن علماء الكلام ودعاة الوحدة لم يغتفروا له مواصلة هذا الدور المعاكس لمحاولات توحيد الناس من خلال اللغة المشتركة‏,‏ ينصحونه بأن يكتب بالفصحي فيهز رأسه ممرورا قبل أن يتكلم غضبا‏,‏ صحيح أن البعض منهم كان يغتفر له سينه التي انقلبت ثاء عند النطق إلا أنهم لم يغفروا له لامه وراءه اللتين تحولتا الي نون بشعة‏,‏ فيضحكون سخرية لايملكون كتمانها فيغفر لهم ذلك أو يشاركهم السخرية من نفسه قبل أن يحاول تبرير تخففه من الفصحي‏,‏ نافيا أنه يكتب لحساب لغة يستخدمها سفلة الناس والجهلاء المغفور لهم عدم المعرفة بقواعد اللغة‏,‏ علي العكس منه لأنه كان يعرفها ويستخدمها بإتقان قبل أن تسيطر عليه تلك العامية التي تسهم في تزويد الخلافات في لهجات الأوطان التي يحاولون توحيدها وتأكيد جذور المشتركة‏,‏ كان في نظر البعض منهم خائنا للمرة الثانية لأن تلك الثأثآت والنأنآت المتواصلة علي لسانه كانت تتطلب منه كتابات سليمة ليصحح وضعه في الكتابة‏,‏ وقد استحال أن يصلح لسانه لكنه لم يتراجع‏,‏ انقلبت موازينه وسرت رغبته بحسب ما يشاء مسري الدم في عروقه‏.‏ فطلعت عليهم تلك الأغاني الناعمة والكتابات المسطورة بين دفات كتبه التي لا تليق حتي بعواميد الصحف اليومية التي كان يطالعها في البدايات فينتقدها بشدة‏.‏ لعله صدق أن أغانيه وأشعاره تليق أكثر بعامة الناس وأنها قابله للفهم بيسر لهم رغم أنها بلا مراجع يعترف بها علماء الكلام ممن ينكرون أصولها أو هؤلاء الذين كانوا يتشدقون بضرورة الوحدة‏.‏ لكن لغة العامة ناوشته كعذراء سافرة تفتن العابد فوقع في هواها وتعبد في محرابها بالكتابه علي هواه وهواها‏,‏ راضيا أن يعيش مكبوسا في مناماته الطويلة التي لابد أن تنتهي بصحوة أو زهرة تدعوة لأن يفيق فيفيق‏.‏
‏***‏
في أيامه الأخيرة كان يدعي أنه يستطيع أن يميز الحلم عن الواقع‏.‏ بل يؤكد لمن يلتقي بهم أنه يستطيع أحيانا أن يصنفها ما بين حلم وكابوس ومنام وغفوة طارئة أو رؤيا خاضعة لسرحات خياله الجامح‏.‏ الذي لا يكف عن التجول بين الأماكن الكائنة ووراء المساحات المفتوحة التي يستحيل الإلمام المؤكد بما يمكن أن يكون وراءها في البعيد خلف المجرة أو المجرات المكتشفة أو المحتملة أو المجهولة‏.‏ وكانت جولاته في الزمان أيضا بلا حدود لم يكن يكتفي بالتاريخ المكتوب المزحوم بالأحداث والأبطال والزعماء والملوك والقادة والشهداء والمتآمرين والخونة ولا حتي التاريخ المتخيل لبدايات الوجود الإنساني علي الأرض بحسب ما قرأ في كتابات من اجتهدوا وأطلقوا لخيالاتهم العنان مسنودين علي ما تأكد لهم من معلومات علمية عن نشأة الحياة فوق سطح الأرض واحتمالاتها في الكواكب السيارة داخل المجموعة الشمسية أو المجرات ودرب التبانة‏,‏ كانت المسألة برغم كونها مضئية ومربكة ويصعب الخلاص منها مبهجة علي نحو ما‏,‏ تماما مثل الأحلام والكوابيس والمنامات التي كانت تقتحمه ناعمة في البدايات دائما وقاسية في النهايات‏,‏ لعله كان يستطيع بحساباته عن نفسه أن يفر من الرغبة في استرجاعها حتي لا يصاب بالكدر أو الاكتئاب بحسب ما يقول علماء النفس‏,‏ كان يواصل فراره من نفسه وخيالاته وأحلامه وكوابيسه المتكررة ليبقي ويعيش‏.‏ وربما كانت قدرته علي الفصل بين ما هو حلم أو منام أو كابوس تساعده علي الاستمرار في الحياة وحيدا كل هذا العمر‏,‏ ولولا هذه القدرة لاختلف الأمر فأراح واستراح وقد تخطي العقد التاسع من عمره ولم تخلط في ذاكرته الحقائق مع الأوهام لأنه كان بشهادة كل من يعرفونه يميز كل ما كان يحدث له ويضعه في الخانة التي تناسبه‏.‏
‏***‏
كان محاصرا بهم في المنام من كل جانب‏,‏ يصرخون ويرفعون أصواتهم‏,‏ يدرك أنه مكبوس في منام ويتذكر هويته الحقيقية ويتعجب من عبارات السباب والاتهامات الموجهة له‏,‏ لكنه لا يفكر في الدفاع عن نفسه خوفا من سماع سخرياتهم من ثأثآته ونأنآته‏,‏ أو يحملونه المسئولية عن كل ما وصلت اليه أحوالهم من مواجع ومكابدات‏,‏ ومكرها يدافع عن نفسه فتطاوعه الحروف ويتخلص في المنام من سينه التي تتحول الصحو ثاء و لامه وراءه اللتين تتحولان الي نون فجة وفاضحة‏,‏ يفرح بقدرته علي الكلام الذي لا يجلب السخريات المعلنج أو المخيفة ويبرع في الدفاع عن نفسه وقد اتهموه بأنه أخذ حقوقهم في الحوافز وبدلات السهر والانتقالات مع المكافآت والعلاوات من الصراف ليقوم بتوصيلها اليهم لكنه لم يفعل‏,‏ يشرحون له مصاعب الحياة‏,‏ وكيف أنهم بالكاد يعيشون لأن مرتباتهم الأصلية لا تكفي أنصاف الشهور‏,‏ يغضب لأن الأمر وصل الي حد اتهامه بالاختلاس لأول مرة في أحلامه وكوابيسه‏,‏ أخرجوا من جيوبهم كشوفا للصرف موقعة بامضائه الخاص ومختومة ومعتمدة مع تعهد مكتوب بخط لا يعرف صاحبه بأن يتولي السيد فلان الفلاني توصيل لك المبالغ لأصحابها‏,‏ كانت عشرات الكشوف المختومة والمعتمدة كصور طبق الأصل تتشابه مع سيوف صدئة مشهرة في وجهه‏,‏ كان يشعر بصدمات مباغته بعدد الكشوف التي يري عليها توقيعه والتي تجعله مدينا بآلاف الآلاف التي يصعب حصرها‏,‏ يسقط من طوله لكنهم لا يرحمونه أو ينصرفون من حوله‏,‏ تظل أصواتهم تطن في أذنيه كخلايا نحل هائج‏,‏ يشعر باللسعات في خلايات مخه ويتزحزح عن مكانه بعسر العسر‏,‏ يعاود التطلع الي الكشوف واحدا في إثر الآخر قبل أن تطرأ علي خياله فكرة أن تكون هذه التوقيعات مدسوسة عليه لأنها صور مطبوعة من أصل توقيع واحد يخصه بالفعل لكنها محض صور‏,‏ يتماسك ويقف ليقول لهم عن اكتشافه الكفيل بتبرئته فيتبادلون نظرات الشك في كشوف الحقوق المنهوبة والتي يحملونها واهمين أنه تسلمها بالفعل بموجب تلك الاعتمادات المدموغة والمختومة باعتبارها صورا طبق الأصل يمكن اعتبارها مستندات رسمية عند اللزوم‏,‏ يخلص للحظات من إحساسه بأنه لايزال متهما بتحصيل أموال لم تكن تخصه لكنه إدعي أنه سوف يقوم بتوصيلها الي أصحابها ثم طمع فيها‏,‏ كانت ثقة الناس فيه موكدة فتبادلوا النظرات التي تؤيد اكتشافه‏,‏ لكن واحدا ممن كان يعتبرهم من أخلص أصدقائه أفسح لنفسه مكانا وسط الجموع وأوضح لهم أنه لن يعترض علي كلام صديقه وأنه يسلم بأن توقيعه علي الكشوف هو مجرد صور متكررة من توقيع واحد أصلي بخط يده لا التباس فيه‏,‏ وساد صمت يوحي باكتمال براءته في عيونهم‏,‏ لكن الآخر التفت ناحيته وسأله إن كان استنتاجه صحيحا فأجاب بالإيجاب‏,‏ موهوما بأنه خلص من مشكلة التدليس وصرف مستحقات الغير دون وجه حق‏,‏ لكن نفس الشخص قال بصوت مجلجل أن ماقاله المتهم اعتراف لا يحتمل الشك في أنه بالفعل صرف وأخذ وتعهد بتوزيع الحقوق علي الناس لكنه لم يفعل‏,‏ وسأل هو صاحبه كيف استنتج من صورة توقيع غير أصلي أنه بالفعل أخذ أموالا لا تخصه؟ تجاهله الصديق وأضاف للمجاميع أن الكشوف معتمدة كأصول أو مستندات صرف‏,‏ وما دام المتهم اعترف بأن صور التوقيعات تم اعتمادها فقد اكتسبت صفة المستندات الرسمية‏,‏ وانقلبت الموازين في عقول الناس وتحول مرة أخري الي متهم بالتبديد وادعاء المرض أو تمثيل الإغماء بشكل مكشوف ومفتعل‏.‏ نصحهم صاحبه بأنه لو سقط أمامهم سقطه موت بلا حراك ليستدر الشفقة عليه كخدعة أخيرة فعليهم ألا يصدقوه‏,‏ تلقي هو التوبيخات والملامات والدعوات بأسوأ النهيات قبل أن يمزقوه‏,‏ كان يشعر بالفعل أنه تمزق الي أجزاء وصار يشعر بالوجع لكنه استند علي احتمال أن يقلب في فراشه أو يفيق من نومه ويخلص من الكابوس لكنه لم يتمكن‏.‏
تبدل المكان فصار حيزا ضيقا ومخنوقا ومدفوسا في ركن بناية رطبة ومسكوكة لا تدخلها شمس‏,‏ وكانت هناك نافذة تطل علي براح مزحوم بمجموعات من الشبان والشابات الذين كانوا يتهامسون وينظرون الي النافذة ناحيته‏,‏ يجد نفسه محصورا وسط جماعات منهم في المكان الضيق‏,‏ يهمسون في أذنيه بكلام عن الوظيفة الخالية المعلن عنها في صحيفة كان قد نشر فيها قصيدة بالعامية في نفس الأسبوع‏,‏ يطلبون منه أن يتعكف ويتكرم ويوصي من بيده الأمر لتشغيلهم‏,‏ فيتفاصح ويذكر لهم أن وظيفة واحدة لن تحل مشاكل هذه الجموع الغفيرة فيتصايحون ويكررون مطلبهم بشكل جماعي وبايقاعات تكاد تكون متشابهة‏,‏ يذكرهم بأنه لايملك الحق في تعيين نفسه في أي وظيفة فيسخرون منه لأنه بلغ من الكبر عتيا ونال حظه من الدنيا ومن المستحيل أن يفكر في وظيفة وهو علي عتبات الموت‏,‏ ولايبدو عليه أي غضب ويبدأ من جديد في تذكيرهم بأنه لايحق له حتي أن يعدهم بعمل أي شيء لواحد منهم‏,‏ يتذكر رغم إدراكه أنه محبوس في كابوس كل الحكايات التي كان قد سمعها في الصحو عن أمثالهم ممن يبحثون عن أي عمل وبأي أجر رغم حصول أكثرهم علي مؤهلات عليا ومتوسطة منذ سنوات‏,‏ يوشك أن يتباكي علي أحوالهم ويتذكر كيف أنه التحق بالعمل بعد شهرين من إتمام دراسته وحصوله عليالبكالوريا بتفوق‏,‏ سأل نفسه بينه وبين نفسه عمن دعاهم لمحاصرته في سكنه المحروم من شمس الله لأنه مدفوس في زقاق ضيق‏,‏ وأدرك أن نافذة الحلم هي نافذته في الصحو أيضا‏,‏ وقد حاول في السنوات الأخيرة دون أن يفلح في تبديل السكن ليكون أكثر إتساعا وتهوية يليق بضيوفه ليجرؤ علي دعوة من يريد أن يستقبله في أي وقت يشاء لكنه لم يحدث‏,‏ فأخفي عنوانه عن كل من كان يتعامل معهم في الصحو مخافة إكتشاف مستواه لكنه في الكابوس لم يتمكن من الإنكار وبقي في مواجهتهم عاجزا عن إقناعهم بأنه ليس مسئولا عن تعيين كل من يطلب العمل لأنه ترك الوظيفة في وزارة القوي العاملة منذ ثلث قرن تقريبا‏,‏ وانقطعت صلته نهائيا بمسائل التعيين وتحرير المحاضر لمن يتجرأ ويفصل عاملا بلا مبرر أو يمتنع عن تنفيذ قوانين العمالة لأمثالهم‏,‏ وخلاصا من المأزق الذي وجد نفسه فيه طلب منهم أن يتقدم كل واحد منهم بطلب توظف ليبحثه أي واحد من المسئولين الذين لايعرفهم وإن كان يتمني أن يتعرف عليه‏,‏ كان الطابور طويلا جدا والنافذة ضيقة تتشابه مع تلك الفتحة المخصصة لبيع تذاكرالترسو في سينما مصر الكائنة ولاتزال في مدينة طنطا‏,‏ الفارق الوحيد هو أن أكداس الطلبات كانت تتراكم وتزحم المكان الي حد خوفه من احتمالات اختناقه في مسكنه‏,‏ تمني لوتقلب في مرقده ليصحو ويتخلص من ذلك الكابوس الخانق الذي كثف شعوره بالعار من نفسه ومن حالته‏,‏ لكنه لم يتقلب رغم محاولاته ليتلقي مزيدا من الطلبات ويتوقع موته مخنوقا بأكداس الورق في كابوس ممدود ومخجل‏.‏
‏***‏
وجد نفسه في ميدان فسيح غير مسقوف وهو في البؤرة بغير اختياره‏,‏ يحيط به المئات ممن يبحثون عن مساكن للإيواء وستر الحريم والبنات في طابور ممدود وفي يد كل منهم طلب مدموغ‏,‏ لكنهم كانوا صما وبكي لايتكلمون أويسمعون‏,‏ يكتفون بالتلويح بطلباتهم فيتعجب من قدرته علي قراءة الأسماء والعبارات والحالات القاسية بكل تفاصيلها‏,‏ يتمني في المنام لو كانت لعينيه في الصحو مثل هذه القدرة‏,‏ يلتفت الي الطابور الآخر والذي يقف بنظام من حيث الشكل لكنه صاخب بأصوات الشباب والشابات‏,‏ والكل يهتف مطالبا بمسكن في المشاريع الخاصة بتسكين الشباب التي تكتب عنها الصحف‏,‏ يصرخون بأن مصائر علاقاتهم العاطفية ورغباتهم المشروعة متوقفة بسبب عدم حصولهم علي أي مساحة مسقوفة كبداية لحياة أسرية جديدة‏,‏ يتوه في تفاصيل الشكايات المتباينة التي تصل الي مسامعه ويسرح بخياله في عشرات الحكايات التي يتذكرها في المنام عارفا أنها حدثت بالفعل وسمع عنها في الصحو‏,‏ كانت هناك جماعة أخري من ذوي الياقات البيضاء المنشأة والببيونات وأربطة العنق تحت الملابس الرسمية يقفون في الأركان بغير نظام ويطالبونه أيضا بتوفير الشقق السكنية الفاخرة بعيدا عن تلك التي تتشابه فيها البنايات والتي لاتليق بمستوياتهم الراقية‏,‏ ينطلق لسانه الفصيح في المنام بلا ثأثآت ولا نأنآت ليفهم الجميع أنه ليس مسئولا عن إسكانهم ويذكرهم بأنه هناك وزارة مختصة بالإسكان والسكان مهمتها صعبة بكل الحسابات رغم أن الكل فيها يحاول بقدر المستطاع‏,‏ يتهمونه بأنه يتهرب من المشكلة التي هي واحدة من مسئولياته رغم عدم تفويضه بشكل رسمي من أي حكومة سابقة‏,‏ يستوضح منهم مندهشا ومستنكرا في ذات الوقت كيف يكون هو المسئول علي أي نحو عن حل هذه المشاكل العويصة علي امتداد العمر‏,‏ لكن واحدا من الأصدقاء القدامي يتقدم صفوف ذوي الببيونات والملابس الرسمية الأنيقة ويقدم إليه هاتفا محمولا ويطالبه بكل أدب أن يرد علي مكالمة تخصه‏,‏ يضع السماعة علي أذنه ويسمع صوتا مألوفا لزميل قديم كان مسئولا في زمن قديم لكنه علي العكس منه تولي مناصب خطيرة في وزارات الإسكان في الزمن القديم‏,‏ رحب به مزهوا بنفسه لأنه مازال يذكره‏,‏ أحاطوا به من كل جانب ليتعرفوا علي هوية ذلك الرجل الذي طالت مكالمته فيبعد السماعة عن فمه تأدبا ويهمس في أذن أقرب الناس إليه بأنه فلان الفلاني والذي كان مسئولا في السابق لكنه ترك الخدمة‏,‏ يتولي الرجل إسكات الكل بإشارات من كلتا الذراعين والكفين‏,‏ يسود صمت إلا من صوته الذي يرد علي إستفسارات زميله المسئول السابق شارحا له الحالة التي يواجهها في الميدان فيتلقي وعودا مبشرة بحل كل المشاكل‏,‏ يتبادل الناس نظرات ارتياح وفرح لأنهم سمعوا كل حرف من كلمات الطالب والمطلوب‏,‏ تنتهي المكالمة فيهللون ويقدمون له عبارات الشكر والعرفان لأنه استطاع بمكالمة واحدة أن يحل كل مشاكلهم وبكل بساطة‏,‏ يتعجب ويتمني ويفكر كيف أن هؤلاء الناس رغم تباين المستويات‏,‏ يتصورون أن مسئولا سابقا يمكنه أن يحل مشكلاتهم المتنوعة في مسائل الإسكان‏,‏ يسمع عبارات مستبشرة فيوشك أن يحذرهم من الاعتماد علي مجرد وعد من مسئول سابق في هاتف محمول ليحل مشاكل علي هذا النحو من التعقيد‏,‏ لكن واحدا من الحاضرين يعارضه ويؤكد له أن المسئول القديم يعرف أكثر من غيره كيفية حل الألغاز الوظيفية برغم انتهاء خدمته وأن هذه المكالمة لم تأت من فراغ أو بالصادفة‏,‏ يهللون للرجل الذي يؤكد لهم بأن اجتماعهم مرصود ومعلن عنه أيضا‏,‏ يقول واحد من الشباب أن أصواتهم بالفعل كانت مسموعة ويضيف أن كاتبا مرموقا مثله يستطيع أن يحل مشاكلهم بمكالمة واحدة فيصفقون‏,‏ يشعر هو بالنشوة ويتفاءل مثلهم ثم ينطلق لسانه بفصاحة دون مخاوف ليحدثهم عن كل الأزمات التي انحلت في السابق علي أهون الأسباب‏,‏ يتلقي هتافات الاستحسان لفصاحته وبراعته في معرفة تواريخ الأجداد القدامي الذين انتصروا علي الزمن‏,‏ لكنه علي غير إرادة منه يتقلب في مرقده ويصحو من منامه الجميل‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.