أسعار الأسماك اليوم الجمعة 3-5-2023 في سوق العبور    تراجع ملحوظ في أسعار السلع الغذائية بالأسواق اليوم    نائب وزيرة التخطيط يفتتح أعمال الدورة الثالثة للجنة تمويل التنمية في الدول الأعضاء بالإسكوا    الشرطة الفرنسية تقتحم جامعة سيانس بو في باريس لتفريق داعمي فلسطين    نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين: 140 صحفيا فلسطينيا استشهدوا منذ 7 أكتوبر    ضبط سيدة في بني سويف بتهمة النصب على مواطنين    ضبط 24 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    3.8 مليون جنيه إيرادات 4 أفلام بالسينما في يوم واحد    اليوم.. الإعلامي جابر القرموطي يقدم حلقة خاصة من معرض أبوظبي للكتاب على cbc    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    توريد 46 ألف طن قمح للصوامع والشون بالقليوبية    الإسكندرية.. تنفيذ 96 إزالة على الأراضي الزراعية ضمن الموجة 22    أسعار الأسماك اليوم الجمعة 3-5-2024 في الدقهلية    محافظ أسيوط يعلن استعداد المحافظة لبدء تطبيق قانون التصالح في مخالفات المباني الجديدة    وزيرة الهجرة تستقبل السفير اليوناني لدى مصر لبحث تعزيز سبل التعاون    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد محمد فريد خميس بالعاشر من رمضان    مصر أكتوبر: اتحاد القبائل العربية يعمل على تعزيز أمن واستقرار سيناء    رئيس البرلمان العربي: الصحافة لعبت دورا مهما في كشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    البنتاجون: نراقب الروس الموجودين في قاعدة يتواجد فيها الجيش الأمريكي في النيجر    أيمن سلامة ل«الشاهد»: مرافعة مصر أمام العدل الدولية دحضت كافة الأكاذيب الإسرائيلية    أخبار الأهلي : العروض الخليجية تغازل حارس الأهلي    جمال علام يكشف مفاجأة بشأن مشكلة الشيبي وحسين الشحات    برشلونة يستهدف التعاقد مع الجوهرة الإفريقية    صحف إيطاليا تبرز قتل ذئاب روما على يد ليفركوزن    «كلوب» يتحدث مجددا عن خلافه مع محمد صلاح: تم حل الأمر    15000 جنيه شهريا.. فرص عمل مميزة للشباب | تفاصيل    سبت النور 2024.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    "مضوني وسرقوا العربية".. تفاصيل اختطاف شاب في القاهرة    ضبط 101 مخالفة تموينية في حملة على المخابز ببني سويف    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا وإصابة 6 أشخاص    الوزراء: 2679 شكوى من التلاعب في وزن الخبز وتفعيل 3129 كارت تكافل وكرامة    مشيرة خطاب تشيد بقرار النائب العام بإنشاء مكتب لحماية المسنين    البابا تواضروس يترأس صلاة الجمعة العظيمة    مدير مكتبة الإسكندرية: العالم يعيش أزمة أخلاق والدليل أحداث غزة (صور)    وزارة التضامن الاجتماعي تكرم الفنانة سلوى عثمان    الليلة.. تامر حسني يحيي حفلا غنائيا بالعين السخنة    أبرز تصريحات فريدة سيف النصر.."نور الشريف تنبأ لي بمستقبل كبير"    قصور الثقافة: إقبال كبير على فيلم السرب في سينما الشعب.. ونشكر «المتحدة»    «اللهم احفظنا من عذاب القبر وحلول الفقر وتقلُّب الدهر».. دعاء يوم الجمعة لطلب الرزق وفك الكرب    «أمانة العامل والصانع وإتقانهما».. تعرف على نص خطبة الجمعة اليوم    لإنقاذ حياة المرضى والمصابين.. أمن بورسعيد ينظم حملة للتبرع بالدم    استشاري يكشف علامات ضعف عضلة القلب وأسبابه    وزير التنمية المحلية يهنئ محافظ الإسماعيلية بعيد القيامة المجيد    السنوار يعارض منح إسرائيل الحق في منع المعتقلين الفلسطنيين من العيش بالضفة    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    عبد المنصف: "نجاح خالد بيبو جزء منه بسبب مباراة ال6-1"    حماس تثمن قطع تركيا العلاقات التجارية مع إسرائيل    محظورات امتحانات نهاية العام لطلاب الأول والثاني الثانوي    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    حكم لبس النقاب للمرأة المحرمة.. دار الإفتاء تجيب    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    حكم وصف الدواء للناس من غير الأطباء.. دار الإفتاء تحذر    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    دراسة أمريكية: بعض المواد الكيميائية يمكن أن تؤدي لزيادة انتشار البدانة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكايدات مواطن مغمور
بقلم:أحمد الشيخ
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 02 - 2010

أحاطوا به من كل جانب‏,‏ وكل منهم يتباري ليرفع صوته أكثر ليوصله إلي مسامعه إلي حد أن اللغط جعله عاجزا عن تمييز الأصوات أو معرفة الغرض الاصلي لكل هذا الصخب‏,‏ لكنه كان محاصرا بهم ومخنوقا بالزحام رغم براح المكان الذي يقترب من مساحة ميدان متوسط الاتساع مقام علي عمدان وله سقف‏,‏ زحام لم يعتده بهذه الكثافة إلا أيام شبابه الغض عندما كان يشارك في مظاهرات الطلبة في براح الميادين والشوارع الواسعة ومنهم للسماء‏,‏ كان ذلك في الزمن القديم أيام سعد زغلول وتأسيس حزب الوفد‏,‏ يهتف ويرددون هتافاته أو يردد هتافاتهم ليطالب مثلهم بالاستقلال التام أو الموت الزؤام‏,‏ أيامها أصيب بضربة عسكري انجليزي جرحت حنجرته وتسببت في حجب صوته تماما لعام كامل رغم أن الجرح طاب‏,‏ كان يكتفي بالاشارة أو يكتب رغباته علي الورق وهو يشير بخجل إلي حنجرته لكنه تجاوز أزمته وبدأ ينطق بعسر العسر‏,‏ ثم تقدم أكثر بمرور السنوات بالصبر والسلوان‏,‏ لكن سينه تحولت إلي ثاء بالاضافة إلي لامه ورائه اللتين تحولتا إلي نون فصارت كلماته ألغازا تحتاج لمترجم أو عقول واعية وأدمغة صاحية تتمكن من فهمه بدلا من الاستفسارات المتكررة التي تطلب منه تكرار ماقاله لتفهم فيتزايد خجله ويلجأ إلي اعتزال الناس رغما من رغباته‏.‏
عايش في ذلك الزمن البعيد صراعات الاحزاب علي كراسي الحكم وسمع ماكان يقال في الخفاء وقرأ ماكان ينشر عن فساد القصر والحكومات المتتالية‏,‏ كان يكتب بعض المقالات أو القصائد ليعبر عن أزمته وأزمة وطنه ويسعي لنشرها أو تجميعها في كتب علي نفقته الخاصة‏,‏ مسنودا علي راتبه وميراثه من أرض كان يبيعها فدانا في إثر فدان ليعيش معزولا في مسكنه ومحزونا علي حالة حتي قامت في البلاد ثورة أجبرت الملك علي التنازل عن عرشه لولي عهده‏,‏ لعله في تلك الأيام نسي عاهته ورقص لأول مرة في الشارع‏,‏ شعر ببهجة لم يعايشها من قبل ولامن بعد‏,‏ فتحرك قلمه ليكتب قصائد جديدة تبشر الناس بالمستقبل الزاهر مثل غيره من الشعراء‏,‏ ينشرها فينال استحسان من يقرؤها‏,‏ لعل ماكان يكتبه وينشره خفف من مواجع جرحه وحقق له شيئا من التوازن وأنساه همه الشخصي وكأنما صار بينه وبين نفسه مسئولا من غير تكليف لمناقشة الحقائق البسيطة التي يكتشفها أو يؤمن بها مع الناس‏,‏ وبمثل ماكان بعيدا عن كل الأحزاب قبل إلغائها وإلغاء الألقاب كان يعيش متباعدا عن كل أشكال التنظيمات السياسية المعلنة والتحتية‏,‏ قائلا لنفسه في كل الأوقات أنه لايرغب ولايصلح لممارسة تلك الأدوار التي تعتمد أساسا علي الألسنة الفصيحة والسليمة‏,‏ كان يكتفي بدور الشاعر العاطفي أحيانا والذي يتأجج غضبا في أحيان أخري ضد وجود أي شئ يتصور أنه يعوق أحلامه أو أحلام الناس في مستقبل أفضل‏,‏ وبحساباته عن نفسه كان مولده الحقيقي قد تأكد له يوم جلاء المستعمر الذي كبس علي أنفاس وطنه لأربعين عاما بالتمام والكمال كان قد عاشها لتضاف إلي تلك السنوات السابقة علي ميلاده بالمعني الحرفي في قريته وبلاده مستعمرة لغرباء‏,‏ قرأ عن أزمنة الاستعمار القديم المتكررة في أيام الرومان والإغريق والبطالمة والفرس والأتراك‏,‏ وصولا لزمنه المعاش ليعرف ماجري لناسه‏,‏ وليته مافعل لأن انغماسه في تفاصيل التفاصيل في تاريخ بلاده اختطفه من نفسه وأفقده سنوات شبابه وأحلامه الخاصة ورغبته حتي في الزواج أو الخلفة‏,‏ متجاوزا في بعض الأحيان ماكان يشعر به من عجز في توصيل مطالبه أو أخباره‏,‏ وكان اليأس من صعوبة تحقيق رغبته كرجل بلا عاهة يدعوه الي التفكر في الموت كأي كائن حي يكتشف أنه عاجز عن مواصلة دوره في الحياة‏,‏ كان قد قرأ كتابين وعدة أبحاث علمية عن فكرة الموت بالارادة فراودته نفسه وقال لها إن متوسطات الأعمار في البلد أقل من الأربعين عاما وقد عاشها وتخطاها منذ سنوات فما هي مبررات الحياة؟ لعله كان يحس أيامها أنه لو واصل الحياة اكثر فسوف يفقد كل ماتبقي من ميراثه ويكابد العوز بينما يأخذ من الزمن اكثر مما يستحق لفترة لايعلمها إلا واهب الحياة والآمر بنهايات الأعمار‏,‏ لكنه علي الرغم من رغبته الشريرة ضد نفسه عاش وأقبل علي الحياة‏,‏ وربما توصل إلي فكرة معكوسة مؤداها أنه من حقه أن يعيش ليؤدي دور الكاتب أو الشاعر من غير مساحة ثابتة ليزرع في أدمغة الناس حلما أو يبشر بمستقبل‏,‏ يتواصل معهم بحسب ماكان يتصور من خلال الكلمات المكتوبة‏,‏ ويعيش وحيدا باختياره ومتباعدا عنهم في نفس الوقت بسبب ذلك الخجل الذي كان يعتريه وسط التجمعات التي تتكلم‏,‏ لأنه يتلعثم في الكلام ويثير ضحكات من يستمعون إلي سينة التي تحولت إلي ثاء معاندة لاتتزحزح وإن كانت أخف وطأة من لامه و رائه اللتين تحولتا الي نون فجة ومحرجة وكأنها مستعمر أبدي لابد فوق لسانه‏,‏ كان يواجه أحيانا بانتقادات لايملك الجرأة علي مواجهتها رغم مافيها من تشدد أوجمود في نظر الناس‏,‏ انتقادات ممن يطالبونه باستخدام كلمات قديمة أوعبارات عفي عليها الزمن وهجرها معظم شعراء عصره‏,‏ لكنه كان في نظر البعض الآخر منفلتا ورافضا لفكرة الالتزام بسياسات أو قواعد ضرورية لايحق له مادام يكتب وينشر أن يتجاهلها ليدخل في زمرتهم‏,‏ كان محاصرا بالتيارين المتصارعين ومصابا بالثأثأة والنأنأة معا‏,‏ لكنه اختار أن يكون وحيدا في هامشه المعزول ليتعايش مع واقعه الذي كان يتبدل بإيقاعات أسرع من قدراته وقدراتهم‏,‏ قائلا لنفسه أنه سوف يحاول أن يكون حرا وبشكل مطلق‏.‏
كان في السنوات الأخيرة يدرك أنه بلغ من الكبر عتيا كما يقول المتفيقهون الأصلاء في استخدامات اللغة التراثية المؤكدة الجذور‏,‏ والتي كان قد تخفف منها خطوة في إثر خطوة وتجاسر علي استبدالها بكلمات لها جذور شعبية تندس بين سطوره في غفلة منه‏,‏ ويقدمها لمن يقرؤها ممن يثق في رأيهم قبل أن ينشرها فيؤكدون له أنها صالحة وجسورة أيضا‏,‏ لكن علماء الكلام ودعاة الوحدة لم يغتفروا له مواصلة هذا الدور المعاكس لمحاولات توحيد الناس من خلال اللغة المشتركة‏,‏ ينصحونه بأن يكتب بالفصحي فيهز رأسه ممرورا قبل أن يتكلم غضبا‏,‏ صحيح أن البعض منهم كان يغتفر له سينه التي انقلبت ثاء عند النطق إلا أنهم لم يغفروا له لامه وراءه اللتين تحولتا الي نون بشعة‏,‏ فيضحكون سخرية لايملكون كتمانها فيغفر لهم ذلك أو يشاركهم السخرية من نفسه قبل أن يحاول تبرير تخففه من الفصحي‏,‏ نافيا أنه يكتب لحساب لغة يستخدمها سفلة الناس والجهلاء المغفور لهم عدم المعرفة بقواعد اللغة‏,‏ علي العكس منه لأنه كان يعرفها ويستخدمها بإتقان قبل أن تسيطر عليه تلك العامية التي تسهم في تزويد الخلافات في لهجات الأوطان التي يحاولون توحيدها وتأكيد جذور المشتركة‏,‏ كان في نظر البعض منهم خائنا للمرة الثانية لأن تلك الثأثآت والنأنآت المتواصلة علي لسانه كانت تتطلب منه كتابات سليمة ليصحح وضعه في الكتابة‏,‏ وقد استحال أن يصلح لسانه لكنه لم يتراجع‏,‏ انقلبت موازينه وسرت رغبته بحسب ما يشاء مسري الدم في عروقه‏.‏ فطلعت عليهم تلك الأغاني الناعمة والكتابات المسطورة بين دفات كتبه التي لا تليق حتي بعواميد الصحف اليومية التي كان يطالعها في البدايات فينتقدها بشدة‏.‏ لعله صدق أن أغانيه وأشعاره تليق أكثر بعامة الناس وأنها قابله للفهم بيسر لهم رغم أنها بلا مراجع يعترف بها علماء الكلام ممن ينكرون أصولها أو هؤلاء الذين كانوا يتشدقون بضرورة الوحدة‏.‏ لكن لغة العامة ناوشته كعذراء سافرة تفتن العابد فوقع في هواها وتعبد في محرابها بالكتابه علي هواه وهواها‏,‏ راضيا أن يعيش مكبوسا في مناماته الطويلة التي لابد أن تنتهي بصحوة أو زهرة تدعوة لأن يفيق فيفيق‏.‏
‏***‏
في أيامه الأخيرة كان يدعي أنه يستطيع أن يميز الحلم عن الواقع‏.‏ بل يؤكد لمن يلتقي بهم أنه يستطيع أحيانا أن يصنفها ما بين حلم وكابوس ومنام وغفوة طارئة أو رؤيا خاضعة لسرحات خياله الجامح‏.‏ الذي لا يكف عن التجول بين الأماكن الكائنة ووراء المساحات المفتوحة التي يستحيل الإلمام المؤكد بما يمكن أن يكون وراءها في البعيد خلف المجرة أو المجرات المكتشفة أو المحتملة أو المجهولة‏.‏ وكانت جولاته في الزمان أيضا بلا حدود لم يكن يكتفي بالتاريخ المكتوب المزحوم بالأحداث والأبطال والزعماء والملوك والقادة والشهداء والمتآمرين والخونة ولا حتي التاريخ المتخيل لبدايات الوجود الإنساني علي الأرض بحسب ما قرأ في كتابات من اجتهدوا وأطلقوا لخيالاتهم العنان مسنودين علي ما تأكد لهم من معلومات علمية عن نشأة الحياة فوق سطح الأرض واحتمالاتها في الكواكب السيارة داخل المجموعة الشمسية أو المجرات ودرب التبانة‏,‏ كانت المسألة برغم كونها مضئية ومربكة ويصعب الخلاص منها مبهجة علي نحو ما‏,‏ تماما مثل الأحلام والكوابيس والمنامات التي كانت تقتحمه ناعمة في البدايات دائما وقاسية في النهايات‏,‏ لعله كان يستطيع بحساباته عن نفسه أن يفر من الرغبة في استرجاعها حتي لا يصاب بالكدر أو الاكتئاب بحسب ما يقول علماء النفس‏,‏ كان يواصل فراره من نفسه وخيالاته وأحلامه وكوابيسه المتكررة ليبقي ويعيش‏.‏ وربما كانت قدرته علي الفصل بين ما هو حلم أو منام أو كابوس تساعده علي الاستمرار في الحياة وحيدا كل هذا العمر‏,‏ ولولا هذه القدرة لاختلف الأمر فأراح واستراح وقد تخطي العقد التاسع من عمره ولم تخلط في ذاكرته الحقائق مع الأوهام لأنه كان بشهادة كل من يعرفونه يميز كل ما كان يحدث له ويضعه في الخانة التي تناسبه‏.‏
‏***‏
كان محاصرا بهم في المنام من كل جانب‏,‏ يصرخون ويرفعون أصواتهم‏,‏ يدرك أنه مكبوس في منام ويتذكر هويته الحقيقية ويتعجب من عبارات السباب والاتهامات الموجهة له‏,‏ لكنه لا يفكر في الدفاع عن نفسه خوفا من سماع سخرياتهم من ثأثآته ونأنآته‏,‏ أو يحملونه المسئولية عن كل ما وصلت اليه أحوالهم من مواجع ومكابدات‏,‏ ومكرها يدافع عن نفسه فتطاوعه الحروف ويتخلص في المنام من سينه التي تتحول الصحو ثاء و لامه وراءه اللتين تتحولان الي نون فجة وفاضحة‏,‏ يفرح بقدرته علي الكلام الذي لا يجلب السخريات المعلنج أو المخيفة ويبرع في الدفاع عن نفسه وقد اتهموه بأنه أخذ حقوقهم في الحوافز وبدلات السهر والانتقالات مع المكافآت والعلاوات من الصراف ليقوم بتوصيلها اليهم لكنه لم يفعل‏,‏ يشرحون له مصاعب الحياة‏,‏ وكيف أنهم بالكاد يعيشون لأن مرتباتهم الأصلية لا تكفي أنصاف الشهور‏,‏ يغضب لأن الأمر وصل الي حد اتهامه بالاختلاس لأول مرة في أحلامه وكوابيسه‏,‏ أخرجوا من جيوبهم كشوفا للصرف موقعة بامضائه الخاص ومختومة ومعتمدة مع تعهد مكتوب بخط لا يعرف صاحبه بأن يتولي السيد فلان الفلاني توصيل لك المبالغ لأصحابها‏,‏ كانت عشرات الكشوف المختومة والمعتمدة كصور طبق الأصل تتشابه مع سيوف صدئة مشهرة في وجهه‏,‏ كان يشعر بصدمات مباغته بعدد الكشوف التي يري عليها توقيعه والتي تجعله مدينا بآلاف الآلاف التي يصعب حصرها‏,‏ يسقط من طوله لكنهم لا يرحمونه أو ينصرفون من حوله‏,‏ تظل أصواتهم تطن في أذنيه كخلايا نحل هائج‏,‏ يشعر باللسعات في خلايات مخه ويتزحزح عن مكانه بعسر العسر‏,‏ يعاود التطلع الي الكشوف واحدا في إثر الآخر قبل أن تطرأ علي خياله فكرة أن تكون هذه التوقيعات مدسوسة عليه لأنها صور مطبوعة من أصل توقيع واحد يخصه بالفعل لكنها محض صور‏,‏ يتماسك ويقف ليقول لهم عن اكتشافه الكفيل بتبرئته فيتبادلون نظرات الشك في كشوف الحقوق المنهوبة والتي يحملونها واهمين أنه تسلمها بالفعل بموجب تلك الاعتمادات المدموغة والمختومة باعتبارها صورا طبق الأصل يمكن اعتبارها مستندات رسمية عند اللزوم‏,‏ يخلص للحظات من إحساسه بأنه لايزال متهما بتحصيل أموال لم تكن تخصه لكنه إدعي أنه سوف يقوم بتوصيلها الي أصحابها ثم طمع فيها‏,‏ كانت ثقة الناس فيه موكدة فتبادلوا النظرات التي تؤيد اكتشافه‏,‏ لكن واحدا ممن كان يعتبرهم من أخلص أصدقائه أفسح لنفسه مكانا وسط الجموع وأوضح لهم أنه لن يعترض علي كلام صديقه وأنه يسلم بأن توقيعه علي الكشوف هو مجرد صور متكررة من توقيع واحد أصلي بخط يده لا التباس فيه‏,‏ وساد صمت يوحي باكتمال براءته في عيونهم‏,‏ لكن الآخر التفت ناحيته وسأله إن كان استنتاجه صحيحا فأجاب بالإيجاب‏,‏ موهوما بأنه خلص من مشكلة التدليس وصرف مستحقات الغير دون وجه حق‏,‏ لكن نفس الشخص قال بصوت مجلجل أن ماقاله المتهم اعتراف لا يحتمل الشك في أنه بالفعل صرف وأخذ وتعهد بتوزيع الحقوق علي الناس لكنه لم يفعل‏,‏ وسأل هو صاحبه كيف استنتج من صورة توقيع غير أصلي أنه بالفعل أخذ أموالا لا تخصه؟ تجاهله الصديق وأضاف للمجاميع أن الكشوف معتمدة كأصول أو مستندات صرف‏,‏ وما دام المتهم اعترف بأن صور التوقيعات تم اعتمادها فقد اكتسبت صفة المستندات الرسمية‏,‏ وانقلبت الموازين في عقول الناس وتحول مرة أخري الي متهم بالتبديد وادعاء المرض أو تمثيل الإغماء بشكل مكشوف ومفتعل‏.‏ نصحهم صاحبه بأنه لو سقط أمامهم سقطه موت بلا حراك ليستدر الشفقة عليه كخدعة أخيرة فعليهم ألا يصدقوه‏,‏ تلقي هو التوبيخات والملامات والدعوات بأسوأ النهيات قبل أن يمزقوه‏,‏ كان يشعر بالفعل أنه تمزق الي أجزاء وصار يشعر بالوجع لكنه استند علي احتمال أن يقلب في فراشه أو يفيق من نومه ويخلص من الكابوس لكنه لم يتمكن‏.‏
تبدل المكان فصار حيزا ضيقا ومخنوقا ومدفوسا في ركن بناية رطبة ومسكوكة لا تدخلها شمس‏,‏ وكانت هناك نافذة تطل علي براح مزحوم بمجموعات من الشبان والشابات الذين كانوا يتهامسون وينظرون الي النافذة ناحيته‏,‏ يجد نفسه محصورا وسط جماعات منهم في المكان الضيق‏,‏ يهمسون في أذنيه بكلام عن الوظيفة الخالية المعلن عنها في صحيفة كان قد نشر فيها قصيدة بالعامية في نفس الأسبوع‏,‏ يطلبون منه أن يتعكف ويتكرم ويوصي من بيده الأمر لتشغيلهم‏,‏ فيتفاصح ويذكر لهم أن وظيفة واحدة لن تحل مشاكل هذه الجموع الغفيرة فيتصايحون ويكررون مطلبهم بشكل جماعي وبايقاعات تكاد تكون متشابهة‏,‏ يذكرهم بأنه لايملك الحق في تعيين نفسه في أي وظيفة فيسخرون منه لأنه بلغ من الكبر عتيا ونال حظه من الدنيا ومن المستحيل أن يفكر في وظيفة وهو علي عتبات الموت‏,‏ ولايبدو عليه أي غضب ويبدأ من جديد في تذكيرهم بأنه لايحق له حتي أن يعدهم بعمل أي شيء لواحد منهم‏,‏ يتذكر رغم إدراكه أنه محبوس في كابوس كل الحكايات التي كان قد سمعها في الصحو عن أمثالهم ممن يبحثون عن أي عمل وبأي أجر رغم حصول أكثرهم علي مؤهلات عليا ومتوسطة منذ سنوات‏,‏ يوشك أن يتباكي علي أحوالهم ويتذكر كيف أنه التحق بالعمل بعد شهرين من إتمام دراسته وحصوله عليالبكالوريا بتفوق‏,‏ سأل نفسه بينه وبين نفسه عمن دعاهم لمحاصرته في سكنه المحروم من شمس الله لأنه مدفوس في زقاق ضيق‏,‏ وأدرك أن نافذة الحلم هي نافذته في الصحو أيضا‏,‏ وقد حاول في السنوات الأخيرة دون أن يفلح في تبديل السكن ليكون أكثر إتساعا وتهوية يليق بضيوفه ليجرؤ علي دعوة من يريد أن يستقبله في أي وقت يشاء لكنه لم يحدث‏,‏ فأخفي عنوانه عن كل من كان يتعامل معهم في الصحو مخافة إكتشاف مستواه لكنه في الكابوس لم يتمكن من الإنكار وبقي في مواجهتهم عاجزا عن إقناعهم بأنه ليس مسئولا عن تعيين كل من يطلب العمل لأنه ترك الوظيفة في وزارة القوي العاملة منذ ثلث قرن تقريبا‏,‏ وانقطعت صلته نهائيا بمسائل التعيين وتحرير المحاضر لمن يتجرأ ويفصل عاملا بلا مبرر أو يمتنع عن تنفيذ قوانين العمالة لأمثالهم‏,‏ وخلاصا من المأزق الذي وجد نفسه فيه طلب منهم أن يتقدم كل واحد منهم بطلب توظف ليبحثه أي واحد من المسئولين الذين لايعرفهم وإن كان يتمني أن يتعرف عليه‏,‏ كان الطابور طويلا جدا والنافذة ضيقة تتشابه مع تلك الفتحة المخصصة لبيع تذاكرالترسو في سينما مصر الكائنة ولاتزال في مدينة طنطا‏,‏ الفارق الوحيد هو أن أكداس الطلبات كانت تتراكم وتزحم المكان الي حد خوفه من احتمالات اختناقه في مسكنه‏,‏ تمني لوتقلب في مرقده ليصحو ويتخلص من ذلك الكابوس الخانق الذي كثف شعوره بالعار من نفسه ومن حالته‏,‏ لكنه لم يتقلب رغم محاولاته ليتلقي مزيدا من الطلبات ويتوقع موته مخنوقا بأكداس الورق في كابوس ممدود ومخجل‏.‏
‏***‏
وجد نفسه في ميدان فسيح غير مسقوف وهو في البؤرة بغير اختياره‏,‏ يحيط به المئات ممن يبحثون عن مساكن للإيواء وستر الحريم والبنات في طابور ممدود وفي يد كل منهم طلب مدموغ‏,‏ لكنهم كانوا صما وبكي لايتكلمون أويسمعون‏,‏ يكتفون بالتلويح بطلباتهم فيتعجب من قدرته علي قراءة الأسماء والعبارات والحالات القاسية بكل تفاصيلها‏,‏ يتمني في المنام لو كانت لعينيه في الصحو مثل هذه القدرة‏,‏ يلتفت الي الطابور الآخر والذي يقف بنظام من حيث الشكل لكنه صاخب بأصوات الشباب والشابات‏,‏ والكل يهتف مطالبا بمسكن في المشاريع الخاصة بتسكين الشباب التي تكتب عنها الصحف‏,‏ يصرخون بأن مصائر علاقاتهم العاطفية ورغباتهم المشروعة متوقفة بسبب عدم حصولهم علي أي مساحة مسقوفة كبداية لحياة أسرية جديدة‏,‏ يتوه في تفاصيل الشكايات المتباينة التي تصل الي مسامعه ويسرح بخياله في عشرات الحكايات التي يتذكرها في المنام عارفا أنها حدثت بالفعل وسمع عنها في الصحو‏,‏ كانت هناك جماعة أخري من ذوي الياقات البيضاء المنشأة والببيونات وأربطة العنق تحت الملابس الرسمية يقفون في الأركان بغير نظام ويطالبونه أيضا بتوفير الشقق السكنية الفاخرة بعيدا عن تلك التي تتشابه فيها البنايات والتي لاتليق بمستوياتهم الراقية‏,‏ ينطلق لسانه الفصيح في المنام بلا ثأثآت ولا نأنآت ليفهم الجميع أنه ليس مسئولا عن إسكانهم ويذكرهم بأنه هناك وزارة مختصة بالإسكان والسكان مهمتها صعبة بكل الحسابات رغم أن الكل فيها يحاول بقدر المستطاع‏,‏ يتهمونه بأنه يتهرب من المشكلة التي هي واحدة من مسئولياته رغم عدم تفويضه بشكل رسمي من أي حكومة سابقة‏,‏ يستوضح منهم مندهشا ومستنكرا في ذات الوقت كيف يكون هو المسئول علي أي نحو عن حل هذه المشاكل العويصة علي امتداد العمر‏,‏ لكن واحدا من الأصدقاء القدامي يتقدم صفوف ذوي الببيونات والملابس الرسمية الأنيقة ويقدم إليه هاتفا محمولا ويطالبه بكل أدب أن يرد علي مكالمة تخصه‏,‏ يضع السماعة علي أذنه ويسمع صوتا مألوفا لزميل قديم كان مسئولا في زمن قديم لكنه علي العكس منه تولي مناصب خطيرة في وزارات الإسكان في الزمن القديم‏,‏ رحب به مزهوا بنفسه لأنه مازال يذكره‏,‏ أحاطوا به من كل جانب ليتعرفوا علي هوية ذلك الرجل الذي طالت مكالمته فيبعد السماعة عن فمه تأدبا ويهمس في أذن أقرب الناس إليه بأنه فلان الفلاني والذي كان مسئولا في السابق لكنه ترك الخدمة‏,‏ يتولي الرجل إسكات الكل بإشارات من كلتا الذراعين والكفين‏,‏ يسود صمت إلا من صوته الذي يرد علي إستفسارات زميله المسئول السابق شارحا له الحالة التي يواجهها في الميدان فيتلقي وعودا مبشرة بحل كل المشاكل‏,‏ يتبادل الناس نظرات ارتياح وفرح لأنهم سمعوا كل حرف من كلمات الطالب والمطلوب‏,‏ تنتهي المكالمة فيهللون ويقدمون له عبارات الشكر والعرفان لأنه استطاع بمكالمة واحدة أن يحل كل مشاكلهم وبكل بساطة‏,‏ يتعجب ويتمني ويفكر كيف أن هؤلاء الناس رغم تباين المستويات‏,‏ يتصورون أن مسئولا سابقا يمكنه أن يحل مشكلاتهم المتنوعة في مسائل الإسكان‏,‏ يسمع عبارات مستبشرة فيوشك أن يحذرهم من الاعتماد علي مجرد وعد من مسئول سابق في هاتف محمول ليحل مشاكل علي هذا النحو من التعقيد‏,‏ لكن واحدا من الحاضرين يعارضه ويؤكد له أن المسئول القديم يعرف أكثر من غيره كيفية حل الألغاز الوظيفية برغم انتهاء خدمته وأن هذه المكالمة لم تأت من فراغ أو بالصادفة‏,‏ يهللون للرجل الذي يؤكد لهم بأن اجتماعهم مرصود ومعلن عنه أيضا‏,‏ يقول واحد من الشباب أن أصواتهم بالفعل كانت مسموعة ويضيف أن كاتبا مرموقا مثله يستطيع أن يحل مشاكلهم بمكالمة واحدة فيصفقون‏,‏ يشعر هو بالنشوة ويتفاءل مثلهم ثم ينطلق لسانه بفصاحة دون مخاوف ليحدثهم عن كل الأزمات التي انحلت في السابق علي أهون الأسباب‏,‏ يتلقي هتافات الاستحسان لفصاحته وبراعته في معرفة تواريخ الأجداد القدامي الذين انتصروا علي الزمن‏,‏ لكنه علي غير إرادة منه يتقلب في مرقده ويصحو من منامه الجميل‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.