هل نعيش اليوم الذي تقطع فيه يد السارق في مصر, وترجم الزانية بالحجارة حتي الموت وتجلد المرأة بالسياط لأنها ارتدت بنطلونا وتشبهت بالرجال؟ أعتقد أن غالبية الشعب المصري لا تريد أن تعيش هذا اليوم, ومع ذلك فمعركة الديمقراطية لا ينتصر فيها طرف من الأطراف مسبقا, وعلي القوي الليبرالية والواعية والمحبة للحرية أن تقطع الطريق أمام قوي التطرف والغلو التي ترتفع أصواتها بقوة هذه الأيام, وأصبحت تتغلغل بين الناس كما لم يحدث من قبل في تاريخ مصر الحديث. ولو افترضنا أنه أجريت انتخابات نزيهة في الفترة من الأربعينيات وحتي نهاية الستينيات من القرن الماضي فإن التيارات الدينية بكافة أطيافها لم تكن لتحصل علي أكثر من5% من الأصوات في ذلك العصر الذي نسميه الآن الزمن الجميل. أما اليوم فإن التقديرات تمنح التيارات الدينية ما لا يقل عن53% وربما تزيد النسبة علي هذا كثيرا.. فما الذي حدث خلال هذه الحقبة حتي يقع هذا التحول الكبير؟ ما حدث هو أن الدولة بكامل أجهزتها شجعت الجماعات الدينية وحثت علي علو نبرة الخطاب الديني المحافظ لأغراض وأسباب مختلفة, وكرست وسائل الإعلام للاضطلاع بهذه المهمة. فقد استخدم السادات الدين للقضاء علي خصومه من الاتجاهات الناصرية والاشتراكية واليسارية عموما, ولم يكن يتخيل أن العملاق الذي أخرجه من القمقم سيجهز عليه في النهاية. لكن استراتيجية مبارك كانت أخطر, حيث قامت علي تغذية التيارات الدينية وغض الطرف عن نشاطها لتكون خيال مآتة يخيف أمريكا والغرب, وكذلك لتكون الساحة السياسية بالداخل خالية من أي معارضة غير دينية حتي تكون المفاضلة بينه وبين الإرهاب, وذلك بعد أن وصم جميع التيارات الإسلامية بهذه الآفة, وهو اتهام غير صحيح. وكان هناك نوع من الشيزوفرينيا في سياسة الدولة خلال الثلاثين عاما الماضية. فهي من ناحية تشجع الخطاب الديني, وتفتح له كل سبل ووسائل التعبير عن نفسه والتأثير في الناس, والسيطرة علي عقولهم, ثم تقمع من ناحية أخري من يخرج من حيز الدعوة الدينية إلي مجال الدعوة السياسية, ويشكل خطرا علي النظام, فامتلأت السجون والمعتقلات بأعضاء الجماعات الإسلامية الذين تجاوزوا حدود اللعبة المسموح بها. لقد لعب نظام مبارك بالنار من خلال هذه الثنائية الشيطانية في التعامل مع التيارات الدينية. تلك هي التركة الثقيلة التي أورثها لنا مبارك والتي سيعاني منها هذا الجيل, وقد ندفع ثمن هذه السياسة من أمن واستقرار مصر في المرحلة المقبلة. لكن ما يطمئن النفس هو أن الشعب المصري يميل بفطرته النقية إلي الوسطية وإلي الاعتدال ولا يحب الغلو والتطرف. ومع ذلك فإن أربعين عاما من التعبئة التي استغلت الدين لأغراض سياسية لا بد أن تترك بصمات مؤثرة علي حياتنا. ومن حقنا أن نتساءل: ماذا لو حصلت الجماعات علي الأغلبية وحكمت مصر؟ ما سيكون مصيرنا؟ فالتيارات الإسلامية لم تقم بعملية مراجعة ومواءمة لمواقفها كما فعل الاتجاه الديني في تركيا, فأصبح الآن في السلطة, لكن بعد أن نبذ سياسة التطرف وطوي صفحة الدولة الدينية, وتخلي عن فرض تطبيق الشريعة بحذافيرها فصار حزب العدالة حزبا مثل باقي الأحزاب المدنية له برنامج للتنمية والتطوير علي كل الأصعدة. أما دعاة التيارات الدينية في مصر فما زالوا يتمسكون بكل ما لفظه الإسلاميون الأتراك وهم يراوغون كلما ووجهوا في وسائل الإعلام بأسئلة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة المساواة بين المسلمين والأقباط. ومن الواضح أن جماعة الإخوان المسلمين تنوي إنشاء حزب أو ربما أكثر من حزب سياسي ينافس في الانتخابات التشريعية المقبلة. كما أن هناك تيارات متعددة تتحدث باسم الدين تنوي هي الأخري إقامة أحزاب, وهذا حقها بطبيعة الحال بشرط الالتزام بالقانون. وهذه الأحزاب عند إنشائها ستكون لها كوادر ومقار وإمكانيات غير متوافرة لدي الأحزاب الأخري الموجودة علي الساحة منذ عهد مبارك والتي تفننت السلطة السابقة في اختراقها وتدميرها من الداخل حتي لا تشكل أي خطر عليها. وواقع الأمر أن الإخوان هم القوة الوحيدة القادرة علي الحشد وتعبئة الجماهير, ولديهم تاريخ في التنظيم والانضباط وتجييش الأتباع غير متوافر لأي حزب أو تجمع سياسي آخر. والنتيجة الخطيرة التي نستطيع أن نخرج بها من الاستفتاء علي الدستور الذي أجري يوم19 مارس هو أن المساجد يمكن أن تلعب دور الأحزاب والمنابر السياسية, حيث استأسد الدعاة لإقناع البسطاء بأن التصويت ب الاب هو تصويت ضد الدين وضد المادة الثانية التي تنص علي أن الإسلام هو دين الدولة. والدرس الأول الذي يجب أن نستخلصه من الاستفتاء الأخير هو أنه لا بد أن نمنع استغلال الدين لأي قضية سياسية, ولا بد أن نعمل جاهدين حتي لا يتحول الجامع إلي حزب سياسي. كذلك فقد أثبت استفتاء91 مارس أن المجتمع المصري أصبح مجتمعا محافظا إلي درجة كبيرة, وأن القوي التي تعمل علي إبقاء الحال علي ما هو عليه أشد تأثيرا من قوي التغيير. وإذا لم تنشط قوي أخري تشكل تحالفا من التيارات الليبرالية والمحبة للديمقراطية وحرية التعبير والعقيدة فسوف تهيمن علي مصر نزعات التطرف, وسنخرج عن السياق العالمي والاتجاه الذي تسير فيه غالبية دول العالم وهو طريق الديمقراطية والدولة المدنية. وعلينا أن ندرك أن الدافع الأساسي وراء ثورة25 يناير لم يكن الفقر والغلاء والبطالة والبحث عن رغيف العيش. كان كل ذلك في خلفية الغضب الجماعي لشعب مصر. لكن الدوافع الرئيسية كانت الإحساس بالظلم والاستعباد, واستهتار النظام بإرادة الشعب, ورفض الاستبداد وحكم الفرد.. وكان الشعور بأن الفساد أصبح غولا يحميه النظام بمثابة محرك قوي لخروج الناس إلي الشوارع والميادين وإسقاط النظام الفاسد. يجب ألا نخطيء في فهم دوافع الثورة حتي نستطيع أن نضعها في مسارها الصحيح. فطبيعة الأمور أن تكلل هذه الثورة باستتباب نظام ديمقراطي وقيام دولة مدنية ليبرالية تجاري كل أنظمة العالم التي تقوم علي حرية الرأي والتعبير والعقيدة وإعلاء حقوق الإنسان. وإن لم نتنبه ونعي ما ينتظرنا ونقوم بتجنيد القوي الراغبة في إقامة الديمقراطية الحقيقية فإن رياح البغضاء والكراهية التي زرعها نظام مبارك سوف تتحول إلي عاصفة عاتية تقتلع جذور الخير والأمان, وسوف ندرك مدي الضرر الجسيم الذي لحق بالمجتمع المصري من جراء إعلام صفوت الشريف. وأنا شخصيا علي ثقة أن هذا لن يحدث, وأن المستقبل الذي ينتظر الأجيال القادمة سيكون بحجم أماني ثورة25 يناير. لكنه لا بد من اتخاذ الاحتياطات والتدابير لنسير في الطريق الصحيح, وعلينا أن ندرك أن التغيير لن يحدث بين يوم وليلة, لكنه سوف يتطلب سنوات طويلة وجهودا تضامنية من كل فرد من أفراد الشعب المصري. المزيد من مقالات شريف الشوباشي