في هذه المرحلة الدقيقة التي نشرع فيها جميعا في البناء وتمهيد الطريق لمكاسب الثورة.. لايمكن ألا يلتفت المتخصصون ايضا لما يجري علي الجانب الآخر من الحدود الشرقية فقد بني بعض البسطاء تحليلاتهم لمنظومة العلاقات المصرية الإسرائيلية انطلاقا من أنها مبنية علي علاقات شخصية بين الرئيس السابق والقيادات الصهيونية المتعاقبة علي إسرائيل, ومن أن تل أبيب لاتهاجم حدودنا الشرقية فقط لهذا السبب. وواقع الحال أن هذه الرؤية قاصرة وغير موضوعية, بل ومهينة أيضا, فالعلاقات الدولية لاتقوم علي( الاستلطاف), والتفكه, والقفشات المتبادلة, بل علي التوازنات, والمصالح المجردة, خاصة فيما يتعلق بقرارات مصيرية. لقد دخلت إسرائيل بعد مبارك في مرحلة جديدة يجب التأكيد فيها علي ركائز محددة أولاها حقيقة أن إسرائيل تنظر لاتفاق كامب ديفيد علي أنه انجاز تاريخي مكنها من عبور أزمات اقتصادية تفاقمت, فكان الحل هو تخفيض ميزانية الدفاع فور استتباب الاتفاقية, والتأكد في صمودها بعد اغتيال الرئيس السادات في مطلع الثمانينات وعلي الجميع أن يلتفت إلي أن ميزانية الدفاع في إسرائيل بلغت03% من اجمالي الناتج القومي, وانخفضت لأقل من7% في منتصف الثمانينات بعد أن كانت بالفعل علي حافة الإفلاس. وبالإضافة لهذا يرصد المراقب أن فترة الخدمة الإلزامية( بكل تبعاتها وآثارها) زادت في صفوف الجيش الإسرائيلي عقب نكسة76 ولم تنخفض إلا في عهد مبارك. إسرائيل تعيد ترتيب الآن أوراقها لأنها تدرك أنها خسرت الوسيط السمسار, وستجد نفسها في مواجهة مصر تنتفض في غير تهور لكرامتها ولمصالحها, وربما تدير لها ظهرها علي غرار ماتنتهجه تركيا مؤخرا تجاهها, ولن تخاطر تل أبيب وفقا لتقديراتي المبكرة بمغامرة غير محسوبة, وقد لاقت الأمرين من حزب الله( علي الرغم من المساندة المعنوية والسياسية للنظام السابق لها) وتكبدت خسائر فادحة ولم تستطع إيقاف صواريخه ولو ليوم واحد إلا بمفاوضات. والملاحظ أنه بخلاف المكاسب الاقتصادية لإسرائيل من اتفاقية كامب ديفيد ومن سياسة مبارك فقد عزز النهج السابق موقف تل أبيب تجاه الفلسطينيين والسوريين. مع ملاحظة أن كامب ديفيد اتاحت للولايات المتحدة أيضا توسعة دائرة حلفائها في المنطقة. وأن تل أبيب تعي أنه من غير المستبعد علي الإطلاق أن تتحرك الدبلوماسية المصرية والعربية لمساندة الأصوات التي كانت تحذر الرأي العام ودافع الضرائب الأمريكي من أن إسرائيل تكبد أمريكا دوما خسائر فادحة وحين يحتاج الامر إلي تدخل تتواري. فقد كان الرد المتكرر علي هذه الآراء بأن الدول العربية غير ديمقراطية.. وبالتالي لانضمن التحالف الكامل معها في ظل غموض الرؤية بالنسبة للمستقبل. مع توعية الرأي العام العالمي بأن قمع الحريات هو الذي حصر حرية التعبير في بعض المساجد مما أدي لتنامي خرافة أن البديل للأنظمة القمعية هو وصول الجماعات المتشددة للحكم إلي أن ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي كثيرا علي فتح نوافد الحرية وتوضيح حجم وقدر تأثير تلك الجماعات في المجتمع المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام. الثابت أيضا في هذا الصدد أننا مطالبون بأن نكون علي أهبة الاستعداد لصد طابور خامس يندس بين الصفوف, ويزرع الفتن, ويروج الشائعات, ويحاول أن يشتت زخم الثورة وبهاءها, وبشكل مواز علينا أن نثق في أننا استعدنا مكانتنا ودورنا, وباتت قطاعات عريضة من الشعب الفلسطيني, وفلسطيني ال84, وجماعات داعية للسلام العادل تنظر لمصر بفخار, وترغب في السير خلفها والانصات لنصائحها وخبرتها التراكمية, في ظل إرادة تم اختبارها مجددا وعزم لايلين. وقد وصل الامر الي حد مطالبة كتاب إسرائيليين بارزين بدراسة تجربة الثورة المصرية في محاربة الفساد والمفسدين وتطبيقها علي نظرائهم في إسرائيل. والأمر الذي يمكن استشرافه في هذا الصدد هو أنه بعد أن ترتب مصر أوراقها الداخلية ستجد أمامها الجانب الإسرائيلي بالفعل علي استعداد تام لصيغة سلمية جديدة تعيد بها تل أبيب بعض الحقوق المغتصبة للعرب( سيتوقف حجم الحقوق المستعادة علي حسن إدارتنا لهذا الملف) فالتاريخ يوضح لنا أن بعد كل حدث جلل تهرع إسرائيل لطاولة المفاوضات حاملة بعض التنازلات. علي غرار ماحدث عقب حرب أكتوبر( استعادة سيناء), وماحدث عقب حرب الخليج( مؤتمر مدريد والاعتراف بمنظمة التحرير), وماحدث عقب الانتفاضة( اتفاقيات الحكم الذاتي), وهو مايتسق مع التاريخ الدولي أيضا عقب كل حدث يغير موازين القوي ويعيد ترتيب الأولويات والتحالفات في أي إقليم. ويؤكد الرؤية المذكورة إقرار المحلل الإسرائيلي البارز يوسف زعيرا أن البدائل أمام تل أبيب تقلصت بقوله: ليس أمامنا سوي مواصلة التمسك بالأراضي الفلسطينية( المحتلة) والمخاطرة بضعضعة السلام مع مصر او التقدم بشجاعة نحو سلام شامل فهذا فقط يستطيع انقاذ السلام مع مصر علي المدي البعيد. وقد عبر عن هذا أيضا الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز حين قال: بالذات عقب الاحداث الاخيرة هناك فرصة كبيرة للإسرائيليين وللفلسطينيين للعودة إلي طاولة المفاوضات والفجوات بين الاطراف ليست كبيرة ويمكن بجهد مشترك وخلال وقت قصير التوقيع علي اتفاق سلام سياسي بيننا. قلق إسرائيل من صحوة مصر واستردادها لمكانتها الطبيعية عبرت عنه تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو حين قال: نحتاج وحدة الصف في إسرائيل إزاء الثورة المصرية وعلي نفس المنوال جاءت تحليلات لخبراء في جامعات إسرائيلية, وسط موجة فرحة وفخار بمصر بين نخبة فلسطيني84 الذين من الممكن في العهد الجديد استثمار التواصل معهم بشكل مفيد وهو مالم يكن يحدث في العهد السابق.( عدد منهم كتب في صحف إسرائيلية مقالات علي غرار: حفظك الله يامصر يا أم الدنيا). إن إسرائيل بالفعل تتحسر وهي تنظر لمصر مابعد الثورة إلي كارت مبارك المحروق, وقد حاولت انقاذه دون جدوي, وربما تحاول الآن الدفع بمرشح لها( يسير علي نفس النهج, ويتعهد بقدر الإمكان برعاية المصالح الإسرائيلية ومنحها أولوية) وسط المرشحين للمناصب القيادية في مصر, وهذا أمر غير مستبعد علي الاطلاق ويجب لفت الانتباه له مبكرا, لكنها في جميع الأحوال باتت مهيأة لوضع جديد تضبط فيه مصر الايقاع وتحدد الأولويات. المزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور