تخطت مصر عتبة رخامية باردة وعالية.. رفعت رأسها نحو الشمس فانحسرت طرحتها عن مقدمة رأسها, أبلج الحق فضاءت جبهتها. فتحت ذراعيها تحتضن نوره الدافيء اندفعنا نحوها نقبل يديها وتنسمنا معهاريحا طيبة هبت في قطرها وحالت شتاءها ربيعا, فاح في واديها ودلتاها وسواحلها وصحرائها طيب رائحة مسك تنبعث من جراح شهداء ثورتها الاطهار الذين تسبح أرواحهم في سمائها ثم تصعد لتسرح في الجنة حيث تشاء وتأوي إلي قناديل معلقة تحت العرش, أعطاها الرحمن ما لم يعط أحدا من خلقه, تبغي بعد نيلها الشهادة لو أن يبعثها ربها فتجاهد في سبيله وتقاتل فتقتل ثم تبعث فتقتل ثم تبعث فتقتل فتكسي من كسوة الجنة وتنظر في وجه الله تعالي. دروب الاستشهاد في سبيل مصر متعددة.. صفحات من تاريخ طويل, شريان نيل يشق برها ويسري من جنوبها إلي شمالها, تحدد لها يوم للوفاء باستشهاد الفريق عبدالمنعم رياض في صفوف القتال الاولي بين جنوده في حرب الاستنزاف يوم9 مارس عام9691, في هذا اليوم يقف الجميع دقيقتين حدادا علي أرواح الشهداء, وتقام صلاة الغائب, لكن يوم الشهيد المصري يوم له عبير خاص في عام1102 في هذا العام تخطي وفاؤنا للشهيد الحدود الرسمية ويتجاوزها ليتشبث بالقاعدة الشعبية, زرنا نصب الشهداء في ميدان التحرير وكل ميادين الاستشهاد في مدن مصر.. عند مسجد القائد إبراهيم بالاسكندرية, ومسجد الشهداء بالسويس نقرأ الفاتحة ونوقد الشموع في كل قرية ومدينة مصرية. كتبنا مع مصر أطلس شهداء الوطن العربي وسجلنا فيه وفق ترتيب أبجدي أسماءهم وقصص استشهادهم وصعودهم إلي بارئهم, كل لمحة من لمحات بطولة شهدائنا تاريخ سنتشبث بها لنسجلها للاجيال القادمة بالقلم والورقة ورقائق السيليكون واللوحة والنغمة والصورة لكيلا ننسي, سنبحث عن قصص الشهداء من هم؟ كيف استشهدوا؟ متي؟ اين؟ لماذا؟ نتحلق حول مصر ونسألها: احك يا أمي لماذا وكيف.. حدث ماحدث؟ كيف يتحول اسم شهيد في حي من أحياء القاهرة من لافتة علي مدرسة أو شارع أو ميدان أو نفق إلي ذاكرة من مسك؟ قد يكون الاهمال قد أصاب الذاكرة المثخنة وأعاقنا الانشغال بالهوامش دون المتن. من هنا تأتي أهمية كتابة الأسطورة المضادة وتسجيل مذابحنا ومفاخرنا لانخجل من تحيزاتنا لحالنا وواقعنا بل نخجل من معرفتنا بالآخر وجهلنا بأنفسنا! بفضل الآخر أصبحنا نعلم الكثير عن حفل الشاي وقائمة شندلر, وعملية ميونيخ, ومذكرات آن فرانك وجنرال باتون وعمر برادي وأيك( ايزنهاور). وبينما تجعل الثقافة الغربية من الحبة قبة نتجاهل نحن الجبال الشوامخ في تضاريس تاريخنا العربي! نعرف عن الغرب أكثر مما نعرف عن الريدانية, ورأس العش, ولسان التمساح والشهيد عبدالمنعم رياض, والمقاومة السرية في بورسعيد والمقاومة الشعبية في السويس والشيخ حافظ سلامة وسناء محيدلي وملجأ العامرية وسيرة الشيخ أحمد ياسين والصبي فارس عودة. رزق الاستشهاد( فؤاد حداد) يختص به الله من عباده وهم كثر في مصر حتي اصبح تاريخ الشهادة في مصر هو تاريخ مصر الذي يحدد إمكانياتها اي مكانها ومكانتها في الزمان, وعندما نتذكر الشهداء ونحفظ ذكراهم في ذاكرة حية فاننا نحرس تاريخ مصر والامة العربية. لهذا نفتح أبواب الذاكرة لكيلا ننسي شهداءنا, نروي حكاياهم فتزهر براعمهم في بر مصر لن تنسي مصر أن تحكي لنا حكاية أبنائها في الوطن الأكبر, الشهداء العرب الذين سقطوا دفاعا عن مصر سليمان الحلبي وابن اللاذقية الارثوذوكسي جول جمال, وكل الشهداء الذين قدمهم الوطن العربي فداء للعروبة في الجزائر بلد المليون شهيد, وشهداء فلسطين قضيتنا الأخلاقية الرئيسية ومن بينهم شهداء غزة الذين تجاوزوا ال0031 شهيد في لحظة غادرة واحدة, وشهداء العراق المحتل الذين تجاوزوا نصف المليون, وشهداء تونس الخضراء وشهداء البحرين, وغيرهم من سكان الجنة. لن تنسي مصر ان تحكي لنا الشهداء المجهولين عبر التاريخ بداية من الذين حاربوا مع أحمس لطرد الهكسوس, خمسون ألف ثائر سقطوا بين كر وفر حرب الشوارع دفاعا عن القاهرة تحت زعامة طومان باي عندما استدرج نائب غيبة قنصوه الغوري جيش سليم الاول لحروب شرسة طويلة بين أحياء القاهرة وشوارعها من الريدانية إلي وردان, شهداء ثورة القاهرة الاولي أفراد اللجان الشعبية الذين خرجوا بكل مايمكن ان يكون سلاحا لصد عدوان الفرنسيس فانهالت عليهم القنابل من مدافع نابليون تضرب قاهرة المعز وجامعها الازهر وبيوتها, ومعهم ثلاثة عشر من مشايخ الازهر والعشرات من قادة الثورة أعدمهم نابليون بيد باردة, وشهداء حملة فريزر في رشيد7081 جنود مصريون شهداء حصن الدكة وكفر الدوار, ومواطنون هدمت مدفعية الاسطول الانجليزي بيوتهم في2881 ثم شهداء حرب65 في بورسعيد والسويس الباسلتين من شعب وجيش وشرطة, وتلاميذ بحر البقر, وعمال أبي زعبل وشهداء52 يناير وجمعة الغضب والاربعاء الأسود. تطلق مصر آذانها عبر السنين من آلاف المآذن مختلطا بأسماء شهدائها, السيدة شفيقة بنت محمد أول شهيدة مصرية لاقت ربها في مظاهرات الاحتجاج علي نفي سعد زغلول في31 مارس9191 التي خلدت ذكراها السيدة نور الهدي شعراوي رائدة المرأة العربية الحديثة في مذكراتها الشاب الجامعي النبيل عبدالحكم الجراحي ومن معه من شباب موقعة كوبري عباس الذين لفتهم لطيفة الزيات بعلم مصر الاخضر جثة بعد جثة كما روت في حملة تفتيش أوراق شخصية الشهيد إبراهيم سليمان موظف شركة السويس لتصنيع البترول, والشرارة والطلقة الاولي في ملحمة السويس الذي أخرج الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية بالسويس جثمانه بعد انتهاء حصار السويس ليعيد دفنه مع اخوانه الشهداء عملا بوصيته, ذكر الشيخ في كتابه عن ملحمة السويس ان الشهيد بدا بعد ثلاثة أشهر من استشهاده سليما كما هو.. لحيته السوداء شعره الممشط أسنانه البيضاء الباسمة ثم دفنه بين تهليل وتكبير الشهود. هؤلاء يامصر أبناؤك احفظيهم كما حفظك الله هذه يامصر سير دماء عربية زكية مسلمة ومسيحية لكيلا ننسي الشهداء الاعلام أبطال الحرب المقدسة أحمد عبدالعزيز والجنرال الذهبي عبدالمنعم رياض واليد النقية أحمد حمدي واللواء شفيق متري سدراك وجمال حمدان وغيرهم, والشهداء المجهولين, شهداء الجهاد وشهداء الفساد في العمارة والطائرة والقاطرة والعبارة ومراكب الهجرة غير الشرعية والمسرح والكنيسة, هم شخصية مصر, وقلبها الاخضر وقطنها طويل التيلة, وجوها المعتدل الذي حفظناه في كتاب الجغرافيا حار جاف صيفا دافيء ممطر شتاء, وخيرفيضان نيلها هم ميلاد الوطن وجوهر كينونته وسر سرمديته والمسك الذي هو طبيب مصر الوطن وعبيره, هم الشهداء الذين أعادوا لنا الوطن كما كان, كما كنا نعرفه ونتذكره.. وطنا حرا جميلا وشجاعا نحتفل بذكري مولده في التاسع من مارس في كل عام.