لدي الثورة المصرية, والنظام السياسي الذي سوف ينبثق عنها, قائمة أعمال طويلة ممتلئة بالكثير من القضايا المعقدة. ولكن مهما طالت القائمة فسوف تشغل الصحف القومية مكانا بارزا فيها, لأنها تقع في قلب إشكاليات فكرة الثورة ذاتها. فالثورة بحكم التعريف هي تعبير عن حركة الشعب كله غضبا علي نظام لم يحقق أهدافه وطموحاته, وكان فيه من الظلم ما يكفي لكي يخرج الناس إلي الشارع. هنا فإن الشعب هو وحدة التحليل, هو الإرادة العامة, وهو الحالة الكلية لرفض ما مضي, والقبول بما هو آت. ولكن الثورة أيضا ديمقراطية أو ساعية لإقامة نظام ديمقراطي حيث التعددية وحق الاختلاف وتحول الشعب إلي فرق وأحزاب وآراء وجماعات وحركات سياسية وعقائدية شتي. هنا تحديدا يقع مأزق الصحف القومية والإعلام القومي حيث هو معبر عن الشعب والإرادة العامة, ولكنه في الواقع العملي عليه أن يجوب بين ظلال وألوان وإيقاعات شتي ومتنوعة. وفي الواقع العملي, أو ما جري من التاريخ وتجربته, فإن ما هو قومي تحول في الواقع إلي علاقة وثيقة مع السلطة السياسية القائمة وحوافها وهوامشها مع الاختلاف معها من وقت لآخر, حفاظا علي المصداقية والمهنية والحرفة في حد ذاتها. جري ذلك منذ وقوع الخطيئة الأصلية لتأميم الصحافة في عام1960 ولم يختلف بعد ذلك لا عصر ولا زمن إلا في الدرجة والألوان والمهارة, ولكن الجوهر كان في كل الأحوال واحدا. هل توجد صيغة للصحف القومية في بلد ديمقراطي؟. التجربة العالمية تنفيها, ولكن في الواقع المصري فإنه يوجد بين الإعلاميين والصحفيين خلاف كبير بين من يريد بقاء التجربة علي حالها, وما عليها إلا أن تنتقل من الولاء لسلطة سياسية إلي أخري; ومن يريد أن يحولها إلي تجارب أخري تنتخب فيها المناصب العليا, ويتم فيها توزيع الأجور بالعدل والقسطاس, وهكذا تقام المساواة والعدالة. كل ذلك لا بأس به, ولكن مشكلته أنه يجري في نطاق سوق صحفية وإعلامية لا تتساوي فيها لا الأجور ولا المناصب, وإنما يتم توزيعها حسب الجهد والموهبة والمهارة والقدرة علي جذب الإعلانات وجذب القارئ أو المشاهد إلي الصحيفة أو شاشة التليفزيون. والحقيقة أن هرب الموهوبين من الصحافة القومية إلي الصحافة الخاصة كان واحدا من سمات المرحلة الماضية; ولم يكن مقبولا من زميل أن يكون رئيسا لتحرير مجلة قومية شهيرة بينما كان بوسعه الحصول علي الملايين في السوق الإعلامية الواسعة إذا كان لديه من الموهبة ما يكفي لجذب عشرات الملايين من الجنيهات. وهكذا الحال في الصحف الخاصة والعربية التي لم تجد كثيرا من الجهد تبذله لكي تحصل علي أفضل العقول المصرية التي رفضت الوقوف في طابور طويل من المتساوين في الرءوس, والمتكاثرين في العدد. والآن سوف تصبح المسألة أكثر تعقيدا عندما يدخل الآلاف من المعينين الجدد الذين سوف يبحث كل واحد منهم عن مكان في الطابور الطويل والممتد. إزاء ذلك كله فلا يوجد حل سحري لقضية الصحف القومية خاصة عندما تكون في مجتمع ديمقراطي ووسط سوق تنافسية حرة في العمل والدخول والأجور. وبرغم أن هناك كثيرا من الآراء المحترمة تم الإدلاء بها خلال الفترة الأخيرة, فإنها ركزت علي الأمور الإجرائية والتوزيعية وابتعدت عن تلك التي تخص الكفاءة والقدرة التنافسية في سوق صعبة. ومن المدهش أن كثيرا من القول قد ركز فقط علي الصحف القومية, بينما بقيت تجارب أخري مثل البديل التي لم تجر دراستها, ولا جري دراسة هياكل وقدرات مؤسسات أخري. علي أي الأحوال فقد كان المسار الذي اختطته الأهرام خلال العام ونصف العام الذي توليت فيه إدارته يقوم علي أساس ثلاثة أعمدة لم أتوقف قط عن تكرارها أمام كل الزملاء: بالنسبة للتحرير فقد كانت المهنية والموضوعية هي السياسة التحريرية التي عرضتها علي الزملاء مرارا وتكرارا, وشفويا وتحريريا. وبالنسبة لمستقبل المؤسسة فقد كان التحول, كما ذكرت في الأسبوع الماضي, من مؤسسة صحفية إلي أخري إعلامية شاملة ومندمجة هي السبيل لاستيعاب الأعداد الزائدة من الصحفيين علي أسس جديدة تقوم علي المهارة والمهنية. وبالنسبة لتنظيم المؤسسة فقد كان التحول من مؤسسة مركزية إلي أخري لا مركزية تسمح بزيادة الإيرادات والعمل بكفاءة. هذه النقطة الأخيرة هي موضوعنا الأخير, فلم يكن الحديث عن الخصخصة ممكنا, ولا بقاء الأمور علي ما هي عليه مطلوبا, ولكن المهمة الممكنة كانت أن نعد المؤسسة ونرفع من قيمتها وقدراتها بالتحول التدريجي إلي شركة قابضة عامة كما كانت الحال في شركة مصر للتأمين وشركة مصر للطيران, وكلاهما مثل نماذج ناجحة لشركات ظلت عامة, ولكنها أصبحت أكثر كفاءة, وزادت مواردها واحتياطياتها, وتعددت أنشطتها بحيث باتت أكثر قدرة علي استيعاب العمالة فيها لكي يكون لها عمل فعلي ومنتج مقابل زيادة في الأجور والدخول. كانت الأهرام مقسمة بحكم الطبيعة إلي ستة قطاعات للعمل: النشر, الطباعة, التوزيع, الإعلانات, تكنولوجيا المعلومات, الاستثمار. هذه القطاعات جميعا مرتبطة حاليا برئيس مجلس الإدارة ومجلس الإدارة مع جمعية عمومية تنعقد في ظروف بعينها. ولكن الفلسفة التي يقوم عليها العمل هي أن المؤسسة كلها تشبه صندوقا واحدا تأتي له الإيرادات من مصادر إنتاجية, ثم بعد ذلك يجري الإنفاق علي ما تستهلكه وتنتجه من منتجات. مثل ذلك يؤدي إلي كثير من الفاقد, وضعف تقييم التكاليف المالية لكل قطاع, فضلا عن قياس الإنتاجية لكل عامل أو موظف ومدي الأجر الذي يستحقه. وفي بعض الأحيان فإن قطاعات ومطبوعات خاسرة كانت تستمر لفترات طويلة مادامت في الإطار العام توجد في مؤسسة رابحة. وربما يمكن تحمل ذلك في السنوات السمان حينما تكون السوق الاقتصادية مزدهرة, ومعها سوق الإعلانات; أما في السنوات العجاف حيث تتراجع الموارد, ومع ذلك فإن المؤسسة كلها لا تستطيع أن تتراجع عن منح الحوافز والأرباح حتي في سنوات خاسرة. وأكثر من ذلك فإن مثل هذا الوضع يسبب احتكاكا مستمرا بين القطاعات المنتجة للدخل, الإعلانات علي سبيل المثال, والأخري المستهلكة له أو هكذا تبدو, بينما الواقع أنها هي الأخري جاذبة للدخل سواء من حيث التوزيع أو الإعلانات. الخلاصة أن هذا الشكل من التنظيم لم يعد ملائما لاقتصاد السوق والمنافسة, وبالطبع لمستويات التشغيل والعمل, التي لا تتم علي أساس اقتصادي كما يحدث في المؤسسات المنافسة التي تشغل ما تحتاجه فقط, ومن ثم تصبح قادرة علي منح رواتب أعلي. ومن هنا يأتي شكل الشركة العامة القابضة التي يكون لها مجلس إدارة يدير ست شركات تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية, ويكون لها جمعيتها العمومية التي تراقب أعمالها ومواردها ومصروفاتها ويسهل محاسبتها علي ما تنفقه وتعطيه للشركة الأم التي يكون لمجلس إدارتها وجمعيتها العمومية تحقيق التوازن الكلي بين الشركات, كما أنه يكون الجهة التي تعين المديرين لهذه الشركات, ورؤساء التحرير للمطبوعات والأدوات الإعلامية المختلفة. مثل هذا التصور لا يمكن تحقيقه علي الفور دون إعداد قانوني وتنظيمي كبير; ومن ثم فإنه يظل تصورا مقترحا لخروج المؤسسات الصحفية القومية من إطارها الحالي إلي إطار قابل للتعامل مع السوق سواء كان هذا الإطار عاما أو خاصا وهو ما يحدده مالك المؤسسة والعاملون فيها. والأمر المهم هنا ليس فقط إعادة التنظيم, وإنما تكامل ذلك مع الخطوات الأخري الخاصة بالمهنية والتحول إلي مؤسسات إعلامية وهو ما لا يتحقق مع مؤسسات صحفية صغيرة, ومن ثم فإن الاندماج ضروري بين الشركات الصحفية الصغري بحيث تكون قادرة علي التعامل مع عملية بهذا القدر من التعقيد. كان هذا هو التصور العام لعملية الإصلاح التي جرت في الأهرام, والذي لم يكن ممكنا السير فيه دون الإعداد الفني للعاملين وتدريبهم علي العمل في ظل مناخ تنافسي; ودون موافقة مجلس الشوري المالك للمؤسسات القومية وهي عملية سياسية لا ندري كيف ستكون الحال فيها في ظل ثورة يناير. فما يهمنا في هذا المقام هو أن نضع تصورا أو تصورات لقضية مهمة لا تكتفي بالأمور الإجرائية أو بتحقيق المساواة بين العاملين بغض النظر عن العمل والإنتاج, وإنما الأهم من ذلك كله أن يكون لدي المؤسسات القومية فرصة حقيقية للقيام برسالتها المعرفية من ناحية, والمشاركة بقوة في السوق الإعلامية من ناحية أخري. تلك هي القضية!. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد