صباح يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير, لم تكن إدارة الشرق الأدني بوزارة الخارجية الأمريكية تتحسب لانقلاب الأوضاع في مصر رأسا علي عقب. الجميع كانوا مشغولون بتفاصيل العمل اليومية والبرقيات الدبلوماسية المعتادة حتي أبرقت شبكة سي ان ان الاخبارية خبرا عاجلا من القاهرة عن خروج حشود كبيرة في مناطق مختلفة من العاصمة المصرية في طريقها ميدان التحرير وعلي أثر الخبر الخاطف راح الدبلوماسيون الأمريكيون يجرون اتصالات في كل الاتجاهات لمعرفة ماهية ما يحدث قبل أن تخرج هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية بتصريح يؤكد ثقة الحكومة الأمريكية في حكم الرئيس حسني مبارك وأنه قادر علي الإصغاء إلي مطالب شعبه في التوقيت نفسه كان شباب المتظاهرين في التحرير يخوضون معركة عنيفة مع الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع. في المقابل, لم يضع المصريون في الولاياتالمتحدة وقتا طويلا بعد أن تأكدوا أن ما يحدث في وسط القاهرة حدث غير عادي, فشرعوا في أمطار الخط الساخن للبيت الأبيض والخارجية الأمريكية بعشرات ثم مئات المكالمات الهاتفية للاحتجاج علي محاولة إفراغ الميدان بالقوة ويعلنون عن ظهور قوي لأول لوبي مصري في الولاياتالمتحدة ولد مع تباشير الثورة المصرية. وحسب مصدر دبلوماسي رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية رفض الكشف عن هويته فإن خلية الأزمة التي تشكلت فيما بعد لوضع تصورات ومتابعة ما يحدث في مصر قد أخفقت لعدة أيام في فهم طبيعة الاحتجاجات الشعبية العارمة وأن البيت الأبيض والخارجية الأمريكية قد تنازعا طرح الرؤي حول كيفية مساعدة أو بالاحري إسداء النصح للحكومة المصرية للتعامل مع الغضب الجماهيري المتصاعد. في الوقت نفسه, كان الدبلوماسيون المصريون بتعليمات من القاهرة يؤكدون للجانب الأمريكي في واشنطن أن الحكومة المصرية قادرة علي احتواء الموقف قبل جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير والتي شكلت تطورا تاريخيا قال عنه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أنه فصل في كتاب طويل من التحولات في مصر. وفي أعقاب جمعة الغضب, دعا الرئيس أوباما مجموعة من المسئولين والخبراء في الملف المصري ووفقا لمصدر رفيع المستوي مقرب من البيت الأبيض سأل الرئيس الأمريكي الحضور عما إذا كان لدي الولاياتالمتحدة خريطة واضحة عن القوي الاجتماعية الجديدة في مصر وتحديدا التنظيمات الشبابية التي نجحت في حشد الملايين من المصريين في مسيرات ضخمة فجاءت الاجابة مترددة وخائبة علي عكس ما أظهرته الخارجية الأمريكية في بداية الثورة المصرية. وقد طلب البيت الأبيض في مرحلة لاحقة معلومات وافية عن لجنة الحوار الوطني التي شكلها مجموعة من المثقفين والمفكرين ومرة ثانية صدمت الاجابة البيت الأبيض, حيث لم تكن السفارة الأمريكية في القاهرة حسب مصدر أمريكي لديها قنوات كافية مع غالبية اعضاء اللجنة وتحديدا الدكتور أحمد كمال أبوالمجد رغم صيته وسمعته الكبيرة, وعلي أثر تلك المعلومات شرعت الخارجية الأمريكية في إعداد ملف شامل عن الحركة الثورية في مصر والبدء في اتصالات فورية لتغذية صانع القرار الأمريكي بالمعلومات الموثقة. ويقول مصدر أمريكي مطلع ل الأهرام إن ظهور الحركات الاحتجاجية علي موقع الفيس بوك وموقع توتير لم يقابله جهد أمريكي في المتابعة المنظمة نتيجة عاملين هما قلة الموارد المالية المخصصة لتلك الأغراض في موازنة الدبلوماسية الأمريكية والعدد المحدود للدبلوماسيين والمحللين المنوط بهم رصد تلك الظواهر الجديدة. وتابع المصدر أن الدبلوماسية الأمريكية قد شرعت في تحليل محتوي الصفحات الخاصة بالحركات الاحتجاجية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وليس قبلها وهو ما ترك اثره في تأخر الاستجابة السريعة لطموحات التغيير في مصر. وقد أجري الرئيس اوباما بنفسه قرابة51 اتصالا هاتفيا بخبراء في الشئون المصرية من الباحثين والسياسيين والأمريكيين, وعلمت الأهرام أن أبرز الأسماء تضمنت الباحث ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي وجود الترمان من معهد الدراسات السياسية والإستراتيجية في واشنطن وأمتدت الاتصالات لتصل إلي إليوت إبرامز أحد أعضاء مجموعة العمل حول مصر التي تسببت في غضب النظام السابق بشدة لانتقادها الانتخابات البرلمانية المصرية وهو احد صقور المحافظين الجدد ومسئول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في عهد جورج دبليو بوش. وقد ساعدت تلك الاتصالات في تحول الموقف الأمريكي من اليمين إلي اليسار أو من النزوع إلي تغليب سياسة الإستقرار إلي مساندة انتفاضة التغيير في مصر وهي القناعة التي وصلت إلي الرئيس الأمريكي بعد مشاورات مع الأطراف العديدة التي تحدث إليها وهي وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والاستخبارات وخبراء مراكز الأبحاث وقيادات الكونجرس. وتسيطر علي صناعة القرار الأمريكي حالة من عدم التصديق لما سماه البعض الإخفاق في تشخيص حالة الغضب الداخلي في مصر وأكثر من ذلك ضعف بنية الاتصالات الدبلوماسية مع أطراف حيوية من المجتمع المصري مثل الشباب والنخب المثقفة التي ظهرت في المشهد بعد ثورة25 يناير حيث من المتوقع أن تطرأ تغيرات جذرية علي السياسة الأمريكية حيال مصر في الفترة المقبلة ومراجعة شاملة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في ضوء صعوبة التنبؤ بالثورات المتتالية في العالم العربي. وقد وسع البيت الأبيض من دائرة القائمين علي الملف المصري بعد25 يناير ليضم شخصيات خبيرة بالتحولات الثورية في مناطق عديدة من العالم واحد تلك الشخصيات يشغل منصبا رفيعا الأمن القومي الأمريكي. وينتظر أن تمتد المراجعة إلي نوعية الدبلوماسيين العاملين في مقر السفارة الأمريكية في القاهرة.. وكان أوباما قد عقد جلسة تشاور مع كيسنجر في مطلع فبراير وطلب خلالها ثعلب السياسة الأمريكية من أوباما التمهل قبل الإقدام علي أية خطوة وترك الخيارات مفتوحة امام الرئيس المصري دون فرض حلول علي المصريين الذين وصفهم بأنهم يعتدون بكرامتهم الوطنية إلي ابعد الحدود وبعد تنحي الرئيس السابق حسني مبارك, كلف أوباما وزيرة خارجيته ببدء حوار علي مستويات عدة في مصر بما في ذلك القوي الشبابية الجديدة كما أن الدوائر الأمريكية قد فشلت في التنبؤ بدور الجيش المصري في الأزمة وتحديدا فرص استخدام القوة ضد المتظاهرين في الشوارع ولم يكن لدي البيت الأبيض معلومات عن تقدير الرأي العام المصري للدور الوطني والبطولة للجيش حيث لم تكن هناك دراسات أو تقريرات حول اتجاهات المصريين حيال المؤسسة العسكرية ولم تقدم الدراسات النظرية السابقة إجابات قاطعة حول امكانية قفز الجيش علي السلطة وإجهاض الثورة بناء علي انماط التدخل العسكري في دول اخري. ويمكن حصر محموعة من التوجهات في ضوء المشاورات الراهنة وماترتب علي اسقاط النظام الحاكم في مصر: أولا الاتصالات المصرية الأمريكية في المرحلة الراهنة تتركز بشكل اساسي في التواصل والتشاور المستمر بين المؤسستين العسكريتين في البلدين في ظل ثقة رجال العسكرية المصرية في قدرة البنتاجون علي تقدير المواقف وتبيان المصالح الاستراتيجية الممتدة بين البلدين. كما أن الأجنحة المعتدلة والعليمة بسياسات الشرق الأوسط عن كثب في الكونجرس الأمريكي تستعد لبدء سلسلة من الزيارات إلي القاهرة للوقوف علي طبيعة التغيير وتبين السبل المناسبة لدعم التحول السلمي لمصر في الفترة المقبلة. ثانيا: أن الكونجرس يعيد تقييم مجمل العلاقات بعد الثورة المصرية من منطلق أن مرحلة مابعد25 يناير قد فرضت تحديات من نوع جديد ليس فقط للعلاقات المصرية الأمريكية ولكن ايضا للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية حيث سيتعرض المشرعون الأمريكيون بمن فيهم النواب اليهود لضغوط في المستقبل لتحجيم المساعدات الأمريكية لدولة إسرائيل من منطلق أنه ليس من المعقول أن يحصل الفرد في إسرائيل علي دعم مالي من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين أكثر مما يحصل عليه الفرد الأمريكي نفسه حيث كسرت الثورة المصرية معادلة الخوف من التغيير في مصر والمنطقة العربية. ثالثا: أن انجاز الديمقراطية في مصر يفرض علي صانع القرار الأمريكية وضع سيناريوهات ل استقلالية القرار السياسي المصري فيما يتعلق بأمور محددة مثل السماح باستخدام قناة السويس في عبور القطع البحرية الأمريكية واستخدام المجال الجوي المصري, وهو بالقطع لن يكون بالمرونة والتسهيلات نفسها التي كان النظام السابق يقدمها للولايات المتحدة, وفي حال اتخاذ خطوات تمثل تحديا للكرامة الوطنية المصرية فإن الولاياتالمتحدة بحسب مصدر أمريكي ستدفع الثمن باهظا في صورة إرتفاع كبير لنفقات مرور الناقلات والبوارج الأمريكية في طرق أخري غير قناة السويس مثل العودة إلي رأس الرجاء الصالح وهو ماسيكلف الولاياتالمتحدة نفقات طائلة. وتتوقع المصادر الأمريكية ان تضع الدولة المثرية في مرحلة مابعد مبارك سياسات واضحة اكثر شفافية امام الرأي العام, تعيد لمصر مكانتها الإقليمية وتخلق مساحة كبيرة للمناورة والمرونة السياسية علي المسرح الدولي فقدتهامضر لعقود من حكم الرئيس السابق. رايعا: أن المساعدات الاقتصادية ومساعدات تنمية المجتمع المدني والديمقراطية التي تقدمها الولاياتالمتحدة لمصر سوف تقدم في إطار محدد. فقد ألمحت الحكومة الأمريكية الي اعتزامها زيادة مساعدات الديمقراطية إلي100 مليون دولار في الفترة المقبلة من أجل فتح المجال السياسي أمام القوي الجديدة وتدعيم المؤسسات الحقوقية لكن الإشارات الواردة من المجلس العسكري الحاكم في مصر تبنيء ان المؤسسة العسكرية لن تقبل فتح الباب لمساعدات المجتمع المدني دون ضوابط أو دون معرفة الجهات التي سوف تتلقي تلك المساعدات في تلك المرحلة الدقيقة وقيام ثورة ضد فساد السلطة لايعني تهديد الأمن القومي للبلاد بفتح الباب علي مصراعيه لقوي خارجية تريد مصالحها في المقام الأول. وحسب مصدر أمريكي وثيق الصلة بالاتصالات يحرص المجلس العسكري في مصر علي ابعاد أية شهبة أو ركوب للموجة من الخارج تحت دعوي تشجيع العملية الديمقراطية إيمانا بقدرة المجتمع المصري في المرحلة المقبلة علي بناء ديمقراطية محلية الصنع دون دروس من الخارج بعد أن علموا العالم طوال18 يوما وغيروا التاريخ.