ثمانية عشر يوما هي عمر الثورة المصرية كانت كافية لتعديل موازين اختلت لسنين طوال وإعادة الأمور إلي نصابها الطبيعي, ليس فقط في مصر. وإنما امتد تأثيرها ايضا للمحيط الاقليمي والدولي, تجلي ذلك بوضوح في لغة الخطاب التي كانت تنتهجها وسائل الإعلام داخل وخارج مصر, فربما كان هناك رهط من الصحفيين شغلهم الشاغل هو تكريس الاقلام لخدمة النظام المباركي وهم من استحقوا بجدارة أن يطلق عليهم الشعب لقب سحرة فرعون. لكن احقاقا للحق هناك اقلام اخري شريفة ضلت الطريق أو ربما لم تكن الرؤية واضحة لها, هؤلاء كانوا ينظرون للأمور من زاوية واحدة فقط وهي ان هذا النظام المباركي حتي وإن بدا متهالكا سوف يضمن الاستقرار للبلاد, ومعه سننأي عن الحروب والصراعات التي تشهدها دول عديدة بالشرق الأوسط. لكل مبرراته ووجهة الخاصة به.. غير اننا لايجب ان نضع البيض كله في سلة واحدة, خاصة ان الثورة فرضت نفسها ب القوة الشرعية علي المؤيد والمعارض لها علي السواء, كما لاينبغي ان نشخصن المؤسسات الصحيفة ونحملها وزر من اخطأوا في الرؤي والتقديرات!! فالمؤسسات قائمة, والاشخاص عابرون.. لقد تغير بالفعل لسان حال الإعلام, والتف الجميع حول ثورة تمخضت من رحم وطن عاني الكثير من الفساد, بعد ان اثبتت علي ارض الواقع انها رغبة شعب وارادة امة لا يمكن غض الطرف عنها او انكارها. في مارس2009 نشرت جريدة ليبراسيون الفرنسية ضمن هذا السياق مقالا تحت عنوان سحر الدبلوماسية الرزينة اشادت فيه الصحيفة بنجاح مصر في تنظيم مؤتمر شرم الشيخ لاعادة اعمار غزة, والذي اعتبرته: ضربة دبلوماسية رائعة. واضافت الصحيفة الفرنسية اثبتت مصر عمليا انها قادرة علي النجاح في التجارب التي تتطلب القوة, وليس ادل علي ذلك من تفوقها المبهر في تنظيم مؤتمر شرم الشيخ ونيلها اشادة المجتمع الدولي بأكمله الذي حضر للمشاركة في مؤتمر إعادة اعمار غزة, ذلك المؤتمر الذي حصل فيه الفلسطينيون علي اضعاف ماكانوا يتمنون من اموال اما علي اي نحو سيتصرفون في تلك الاموال فذلك شأن اخر. ثم انتقلت الصحيفة للحديث عن الرئيس السابق مبارك قائلة: هناك في شرم الشيخ ووسط حضور زعماء العالم برهن الرئيس المصري حسني مبارك بما لايدع اي مجال للشك علي انه زعيم لايمكن الاستغناء عنه من أجل تحقيق السلام واختتم المقال بعبارة: في الدبلوماسية لامجال لكثير من الكلام إنها فن ايها السادة. لمن لايعرف الكثير عن تاريخ جريدة ليبراسيون هي جريدة قام الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر بتأسيسها في عام1973 من أجل إعطاء الكلام للشعب أتي مشروع تأسيس هذه الجريدة اليسارية كعملية نقدية للصحافة المسيطرة, لماذا؟ لأنها ليست صحيفة يصنعها الصحفيون من أجل الناس وإنما هي صحيفة يصنعها الناس بمساعدة الصحفيين وبهذا فإن إعلامها يأتي من الشعب ليعود الي الشعب. التعريف بالجريدة الفرنسية ونشأتها كان أمرا ضروريا حتي يكون واضحا للجميع بأن اشادتها بدبلوماسية وشخص الرئيس السابق مبارك بل واعتباره زعيما لايمكن الاستغناء عنه لم يات بتوجيهات من الحزب الوطني أو لجنة السياسات! وانما كان تقييما لدور لعبه ومرحلة كان يقودها رصدتها الجريدة وفقا لوجهة نظر كاتبها, وأكرر: وجهة نظر كاتبها وليس الجريدة. فإذا كنا نطالب بديمقراطية حقيقية ينبغي أن نقبل بالرأي والرأي الآخر في صحفنا دون أن نرجم من يتعارض رأيه معنا وانما الفكر يرد عليه بالفكر والحجة بالحجة والمنطق بالمنطق. ليبراسيون الجريدة التي كانت تشيد بمبارك في الماضي هي نفسها التي خصصت أكثر من غلاف لمصر مع عناوين لا تخفي مناصرتها لثورة الشعب صحوة المصريين, مقاومة المومياء, ارحل يامبارك, متعطشون للحرية, يوم الشعب..الخ. فنجد لوران جوفرين مدير التحرير يكتب افتتاحية تحت عنوان بطولة يصف فيها ثورة المصريين قائلا: ان ضوءا ساطعا يأتي فجأة من الشرق.. نحن نشهد علي شروق شمس, ويضيف: حان الوقت للاحتفال ببطولة شعب بسيط أثار رعب الطغاة وغير مجري التاريخ. وبعد موقعة الابل والحمير الشهيرة انتقدت الصحيفة بشدة علي صفحاتها الاولي رد النظام المصري العنيف علي تظاهرة ميدان التحرير وتناولت بالتفصيل ماجري في الشارع المصري من اعتداءات لا إنسانية قام بها موالون للرئيس السابق حسني مبارك فنجدها تعنون صفحتها الاولي ضربة مبارك الخسيسة وتكتب النظام يلعب بورقة الفوضي قائلة في افتتاحيتها إن مصر تشقي في كتابة الفصل الاخير من ثورتها وسط ردود فعل المانية وفرنسية وأمريكية تتخوف من شبح الاصولية الذي يخيم علي العالم العربي. من جانبها تعترف مراسلة الجريدة بالقاهرة كلود جيبال بأنها أخفقت في تقديراتها للأمور قائلة: علمتني هذه الثورة أن الصحفي عليه أن يتواضع قليلا في تحليلات فقد كنت قبل اسابيع أنظر بأن ثورة تونس يستحيل أن تنتقل الي مصر!! أقف هنا عند الاعتراف الشجاع ل كلود فهي تقر بأن الصحفي بشر ومن الممكن أن تخونه التقديرات والحسابات وأن يفقد الرؤية.. وبمنتهي التحضر اعلنت خطأها في تقدير الامور أمام قاريء الجريدة الذي ائتمنها علي عقله وفكره هذه هي الروح التي ينبغي أن نعمل بها بعد ثورة25 يناير وهي دعوة لكل كاتب شريف أخطأ التقدير تجاه مصير وطن أن يحذو حذو كلود. أن يعتذر للقاريء ليس عيبا ان نقع في الخطأ وإنما العيب أن نتجاهل الاعتذار أو نلتف حوله. معا لفتح صفحة جديدة.. معا للالتحاق بالشعوب الحرة.. شرط أن تستند علي دعامة ثابتة في ثقافتنا هي: احترام الرأي والرأي الآخر, تقديم الاعتذار في حالة الخطأ, وعدم شخصنة المؤسسات, وعدم المزايدة علي بعضنا البعض في وطنيتنا. جميعها قيم اساسية لابد أن تدخل قاموس حياتنا وتصبح جزءا من ثقافتنا اذا أردنا الالتحاق بالدول المتقدمة والشعوب الحرة. نسرين مهران