العلاقة بين القانون والسياسة وثيقة للغاية, إلا أن السياسة أكثر اتساعا وعمقا وشمولا من القانون, فإذا كان القانون يستهدف تحقيق العدالة, فإن السياسة تستهدف تحقيق حياة أفضل, وهذا لن يتأتي إلا من خلال جهود متعددة الأبعاد تشمل من بين ماتشمل تحقيق العدالة والمساواة والحرية. هذا الإدراك للعلاقة بين القانون والسياسة هام لتحديد طبيعة النقاش الذي ثار مؤخرا حول طبيعة التجهيزات الهندسية التي أطلق البعض عليها مفهوم الجدار التي تقوم مصر ببنائها علي حدودها الشمالية الشرقية, وإذا كان الرئيس مبارك قد حسم حق مصر في إقامة هذه المنشآت من ناحية السيادة وبصورة قاطعة فمن المؤكد ان قيام مصر بهذه المنشآت من وجهة النظر السياسية لابد وأن تتلاقي مع مفاهيم السيادة. فالدعوة الي الاعتراض علي هذه المنشآت نبعت من فكرة تأثيرها السلبي علي الأشقاء في قطاع غزة من ناحية المعيشة اليومية, وهو اعتراض يعيدني الي قيام الرئيس خالد الذكر جمال عبدالناصر بقبول مبادرة روجرز عام1970 وهو مادفع عددا من الفصائل الفلسطينية الي مهاجمة مصر والرئيس عبدالناصر نفسه الذي لايمكن التشكيك في ولائه القومي العربي, وبعثه لمفهوم القومية العربية, ولم تدرك هذه الفصائل ان الصراع العسكري قد يتطلب في بعض الأحيان إيقاف العمليات العسكرية لتحقيق اهداف استراتيجية, وكان قبول عبدالناصر لهذه المبادرة انعكاسا لحاجة مصر الملحة لبناء حائط الصواريخ علي ضفة قناة السويس, وهو الحائط الذي حمي الجيش المصري في حرب اكتوبر1973 من غارات الطيران الإسرائيلي, بل وانهي السيادة الجوية لإسرائيل لاول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. نفس الموقف تكرر ايضا من بعض الفصائل الفلسطينية حينما اعلن الملك حسين فك الارتباط بين الاردن والضفة الغربية, وكان الهدف من فك الارتباط اسقاط جميع الخيارات المتاحة لحل القضية الفلسطينية ومن بينها الخيار الاردني مع الابقاء علي خيار واحد للحل وهو الخيار الفلسطيني. فمن الناحية السياسية يمكن القول ان هذه المنشآت( جدار او خلافه) لن تحقق سوي تأكيد الخيار الفلسطيني, ولن تؤدي الا الي تأكيد الترابط بين الضفة وغزة, فانسحاب اسرائيل من قطاع غزة استهدف تخليها عن مسئوليتها عن القطاع بوصفها قوة احتلال وتزامن ذلك مع تصريحات من قيادات عديدة في اسرائيل تؤكد اعادة القطاع الي الادارة المصرية, في محاولة منها لحل القضية الفلسطينية في اطار الخيار الاردني للضفة الغربية اي اعادة ربطها بالاردن, والخيار المصري لغزة, اي تصفية القضية الفلسطينية وليس حلها. والأكثر من ذلك ان هناك دراسات عديدة ومن بينها الدراسة التي أصدرها مركز واشنطن لدراسات الشرق الادني في سبتمبر2008 وكتبها جيورا ايلان الرئيس السابق لمجلس الامن القومي الاسرائيلي. والتي تؤكد بوضوح تام هذه المحاولة الاسرائيلية لتصفية القضية, مشيرة الي ان القطاع لن يستوعب الزيادة السكانية لساكنيه, ومن ثم اقترحت الدراسة ضرورة توسيع القطاع داخل الحدود المصرية, مؤكدة ان سيناء تتسم بحالة من الضعف السكاني ومن ثم فهذا الحل لن يضير مصر, والأكثر من ذلك ان الدراسة اقترحت امكانية تنازل اسرائيل عن شريط من الارض في النقب لمصر مقابل المساحة التي ستتنازل عنها مصر لقطاع غزة. اما اي اثار سلبية لهذه الانشاءات علي سكان غزة في المدي القصير فيمكن حلها بأساليب اكثر شرعية, فمصر لم تكن الدولة الوحيدة التي عرفت ظاهرة انفاق التهريب, فهناك انفاق برلين التي ربطت بين برلينالشرقيةوبرلينالغربية, وهناك انفاق المكسيك التي ربطت بينها وبين الولاياتالمتحدة, وقد توافق المجتمع الدولي والدول التي تربط بينها هذه الانفاق علي ضرورة القضاء علي الانفاق لانها تعكس حالة من اللاشرعية, بل حالة من تحدي الشرعية نفسها, بقدر ماتعكس حالة من الكسب غير المشروع في حالة انفاق غزة علي حساب سكان القطاع انفسهم نتيجة ارتفاع اسعار السلع المهربة لسداد رسوم استخدام هذه الانفاق, والسؤال الذي لم يطرحه احد: لماذا تدافع بعض العناصر الفلسطينية عن استمرار وجود هذه الانفاق؟ وكيف يمكن لحكومة تدعي الشرعية الدفاع عن حالة من اللاشرعية؟ ان الادعاء بان هذه الانفاق وسيلة لتحسين الاحوال المعيشية في غزة هو ادعاء كاذب, والحقيقة ان الدفاع عن استمرار هذه الانفاق يؤكد فشل المسئولين عن القطاع في ادارته ويكرس حالة الانقسام الفلسطيني الحالي الذي لايستفيد منه سوي اسرائيل. وللأسف تكريس الانقسام يتم لتحقيق اهداف قصيرة المدي علي حساب الشعب الفلسطيني وعلي حساب القضية الفلسطينية, فالقضية الفلسطينية ليست مجرد قضية تحرر فقط, وإنما قضية تستهدف اقامة دولة علي التراب الوطني الفلسطيني بما يحقق الآمال القومية المشروعة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع معا, وهو ماتدركه اسرائيل بوضوح تام من واقع الدراسة المشار اليها حينما حددت طريقة ذات ثلاثة ابعاد لحل القضية الفلسطينية هي دراسة الاختلافات التي طرأت بين عام2001, والوقت الراهن, ثم تحليل الموضوعات الجوهرية في الصراع وتشمل الحدود والأمن, واللاجئين, والمستوطنات, والقدس, وأخيرا, تقديم الحلول الممكنة الاخري بدلا من حل الدولتين وهذه الحلول تتركز في حلين هما الخيار الأردني, والخيار الإقليمي. ان حل القضية الفلسطينية يتطلب ضرورة تحديد الموضوعات الاساسية التي ينبغي التعرض لها والموضوعات الثانوية التي ينبغي تأجيل الحديث فيها, ولكن للأسف لقد اختلط الحابل بالنابل في القضية الفلسطينية نتيجة سعي البعض لتحقيق مكاسب عاجلة لن يمكن الدفاع عنها آجلا وهو ما ينبغي التنبه اليه. ان هذه الانشاءات تضع اسرائيل بوصفها قوة احتلال امام مسئولياتها في القطاع, أسوة بمسئوليتها المؤكدة حاليا في الضفة الغربية بما يؤكد استمرار الخيار الفلسطيني بوصفة حلا وحيدا للقضية الفلسطينية, ويبقي ان تسعي الاطراف الفلسطينية الي تحقيق المصالحة التي لن تؤدي الا الي تأكيد وحدة القطاع والضفة, ووحدة الحل الذي لن يؤدي الا الي قيام الدولة الفلسطينية, وعلي الجميع تحمل مسئولياته بدلا من سعي البعض الي اهداف تتعارض وقدسية القضية الفلسطينية. المزيد من مقالات د. عزمي خليفة