نبدأ تعدادنا لتلك الكنوز بإثبات الشعب المصري أنه ليس خارج روح العصر الذي بدأ بانتهاء الحرب الباردة, وانهيار النظم الشمولية في الكتلة الشرقية, وغيرها من المجتمعات التي نحت نحوها, وروح العصر التي نتحدث عنها هنا هي باختصار سيادة الشعوب علي سلطاتها الحاكمة فعلا وقولا والحكم علي شرعية هذه السلطات باحترام حقوق المواطن وصندوق الانتخابات وتحسين مستويات المعيشة. والكنز الثاني في الترتيب وليس في الأهمية كما سبقت الإشارة هو إعادة اكتشاف القيم الحضارية المترسخة في ضمير ووجدان الشعب المصري, الذي أثبت أنه أرقي من كثير من مثقفيه وحاكميه, فكرا, وسلوكا, وعبر عن ذلك بأشكال ورموز عديدة باهرة, أبسطها وأكثرها دلالة أن فقراء المشاركين في الاعتصامات كانوا يرفضون هدايا الطعام من المتطوعين بها, لأنهم كانوا قد انتهوا لتوهم من التقوت ببعض اللقيمات, ولأن غيرهم في مكان آخر من ميدان التحرير لم يأكلوا بعد, فإذا قارنا هذه القناعة بجشع البهوات في حفلات البوفيهات المفتوحة في الأوقات العادية لأدركنا كم فجرت الثورة من قيم نبيلة في نفوس وضمائر المصريين, ولا داعي للمقارنة بين عفة الثوار وإيثارهم وبين جشع ولصوصية ناهبي الأموال والثروات العامة. وثالثا: هناك الكنز المتمثل في إعادة اكتشاف القيمة الاستراتيجية العالمية لمصر, فقد ترددت أصداء الثورة, وتوالت ردود أفعالها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في كل مكان في العالم, من طوكيو حتي نيويورك, وفرح بها الأحرار في كل مكان, وارتعدت لها أوصال الحكام الفاسدين المتجبرين أيضا في كل مكان, خاصة في عالمنا العربي, ألم تحجب السلطات في الصين وإيران أنباء الثورة عن الشعبين الصيني والإيراني, حتي إن كلمة مصر حذفت من قائمة مؤشر البحث( جوجل) علي شبكة الإنترنت. ويأتي رابعا: اكتساح الثورة الكثير من السلبيات التي تراكمت في حياتنا العامة بل والخاصة ليس فقط طوال ثلاثين عاما هي حكم الرئيس السابق حسني مبارك, وإنما قبلها بأحقاب ممتدة وسابقة علي ثورة يوليو حين تبددت روح ثورة1919 المجيدة, فلا عزوف بعد اليوم عن المشاركة السياسية, ولا سلبية أمام الأخطاء, ولا انهماك في صغائر الأمور كالطائفية, وفتاوي التخلف, وفتات موائد السلطة.. إلخ. ولا جدال في أن قدرات الشباب المصري علي التحريك والتنظيم, والصمود, والتفكير السياسي البالغ أعلي درجات الوعي, وانخراطهم في أدوات ومناهج عصرهم كانت وستبقي من أهم كنوز ثورة الخامس والعشرين من يناير, فقد فعل هؤلاء الشباب في الشرق الأوسط أكثر مما فعله شباب ثورات1986 في أوروبا, بل إن الشباب المصري بثورته, ومن قبله الشباب التونسي لم يسقطوا فقط نظامين للحكم, ولكنهم أسقطوا عصرا بأكمله سيطرت فيه أعقاب السلالات( لثورات التحرير الوطني) علي البلاد والعباد, علما بأن مفهوم أعقاب السلالات في علم الاجتماع السياسي يعني العجز والفساد والجمود وانعدام القيم النبيلة, وغياب الوازع الخلقي, وطغيان الشخصنة ومنطق العصابات الإجرامية. ثم إنه لا يقل عن ذلك كله أهمية تعلم الإخوان المسلمين أو تعليمهم فضيلة التواضع التي كانت غائبة عنهم في معظم تاريخهم, فهم في أحسن أحوالهم مجرد قوة بين قوي عديدة في المجتمع المصري, وهم ليسوا من بادر وحرك, وهم رأوا بأعينهم أن الشعب في مجموعه لا يردد شعاراتهم, ولا يسير وراءهم, وفي ذلك فإن هناك إنجازات كبيرة, منها دعم الاتجاهات والقيادات الإصلاحية الحديثة داخل الجماعة, ومنها كسب الجماعة ككل إلي حياة سياسية ديمقراطية مدنية. أما آخر قائمة الكنوز التي أمنتها لنا ثورة الخامس والعشرين من يناير وليس آخرها, ولا أقلها أهمية فهو التأكيد للمرة الثالثة في تاريخ مصر الحديث علي خصوصية الجيش المصري, فهو جيش الشعب حقا وفعلا, وليس جيش السلطة كما هي عادة الجيوش في التاريخ السياسي العالمي, إنه كان جيش الشعب في ثورة عرابي, وكان جيش الشعب في ثورة يوليو, وهو اليوم أيضا جيش الشعب الذي صدق حس الشعب وطليعته الشابة, ولم يقبل أن تطلق رصاصة واحدة من أسلحته علي مواطن, والتزم بذلك علنا منذ أول دقيقة, وهو الذي حسم في نهاية الأمر الموقف استجابة لمطالب الثورة, وهنا أيضا لابد من تحية الجيش التونسي الذي انحاز أيضا لشعبه, ولكن تبقي للجيش المصري فضيلة أنه أحاط بالثوار لحمايتهم, ولم يكتف فقط برفض استخدام القوة ضدهم, كما أنه آل علي نفسه تسلم السلطة مؤقتا لحماية الثورة والوطن. وهذا درس تعلمته الشرطة التي كان وعيها قد غيب في اصطناع التناقض بينها وبين الشعب. هذه الكنوز وغيرها مما لم يتسع له المجال, ومما لم يحط به وعي كاتب هذه السطور هي ذخيرة مصر لمستقبل زاهر, وعلينا جميعا حراستها من السطو أو من التبدد, ومما يطمئن هنا أن قدرات التنظيم والتحريك التي امتلكها شباب الثورة سوف تستمر في حمايتها من الانتهازيين, وبقايا الفاسدين, وأصحاب الأولويات المختلفة عن أولويات الشعب, ويطمئننا في الوقت نفسه أن القيادة السياسية الحالية المتمثلة في المجلس الأعلي للقوات المسلحة لا تشعر مطلقا بتناقض بينها وبين مطالب الثوار, بل إنها أعلنت منذ بيانها الأول تبنيها لهذه المطالب المشروعة, بل إن مما يستحق الإعجاب والتحية من زاوية التحليل السياسي المجرد أن البيان الأخير للقوات المسلحة الذي انطوي علي قرار بعدم السماح بالإضرابات والوقفات الاحتجاجية الفئوية انطوي في ذات الوقت علي اعتراف وتفهم لعدالة أسباب هذه التحركات, وتعهد بإزالة المظالم عبر خطة طويلة المدي. لكن أيضا ومن زاوية التحليل السياسي البحت هناك عنصر غائب في الموقف حاليا, وهو الرؤية السياسية الشاملة لما ينبغي أن يكون عليه النظام السياسي المصري سواء في الأجل القصير, أو في الأجل البعيد, فنحن في حاجة إلي وثيقة تحدد المفاهيم والإجراءات, والجداول الزمنية, لأن كل ما يحدث حاليا هو من قبيل الإجراءات فقط, ومن الطبيعي ألا تصدر هذه الوثيقة عن جهة بعينها, ولكن عن مؤتمر قومي, أو علي الأقل عن مجلس حكماء يتسع لجميع التيارات. ولأن العمل السياسي لا يجري في عالم المثل العليا والقيم النبيلة فقط, فهناك تحذير لابد منه, وهو أن العجلة في إجراء انتخابات برلمانية, ربما لا تمكننا من الحصول علي كتلة وسط ديمقراطية مدنية تحوز الأغلبية أو تحوز ما يكفي لتكوين نواة ائتلاف حكومي قومي, والسبب معروف للكافة, وهو أن هذه المكانة في الحياة السياسية المصرية كان يشغلها دون جدارة أو استحقاق أو كفاءة الحزب الوطني الديمقراطي السلطوي, بما لم يسمح بظهور القوة الحقيقية الجديرة بشغل هذه المكانة. وأعود إلي اقتراحي السابق بعقد مؤتمر قومي لوضع وثيقة مستقبل مصر السياسي, فمن المؤكد أن هذا المؤتمر سيكون فرصة ذهبية لظهور كتلة الوسط المنظمة التي نريدها. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد