حتي وقت قريب كانت الإجابة عن السؤال تتدثر بعبارات فلسفية. حتي جاء مؤلف هذا الكتاب, ليضع تشخيصا واقعيا, يستخلصه من قراءته وتحليله لاستطلاعات وأبحاث ميدانية واسعة النطاق, تصف السعادة بشكل يختلف عما كان سائدا. كان السؤال الذي طرحه الباحثون هو: ما هي السياسات التي تجلب للناس أكبر قدر من مشاعر السعادة؟ وما هي العوامل الأكثر تحقيقا لجودة الحياة للمواطن؟ وما الذي يمكن عمله لتعظيم أثر هذه العوامل التي ترفع من احساس الإنسان بأنه يعيش في سعادة؟ واللافت للنظر ضمن ما خرجت به هذه الأبحاث, أن دولة صغيرة جدا, هي مملكة بوتان الواقعة في جنوب آسيا, وتتاخم الصين والهند, أعلنت أن السعادة الوطنية الشاملة, لكل المواطنين, هي الهدف المركزي لسياسة حكومتها, قبل أي شيء آخر. لقد تمت آلاف الدراسات خلال السنوات الأربعين الماضية, حول السعادة وأسبابها, وما الذي يجعل الفرد سعيدا: هل هي الرفاهية الاقتصادية أو طابع النشاط والعلاقات اليومية, مثل نوع العمل, والأصدقاء. إلي أن طرح معني مختلف للسعادة في هذا الكتاب سياسات السعادة: وما الذي تستطيع الحكومة أن تتعلمه من الأبحاث الحديثة عن السعادة. ThePoliticsofHappiness:whatGovernmentcanlearnfromthenewsearchonwell-being .. والكتاب من تأليف البروفسور ديريك بوك الرئيس السابق لجامعة هارفارد من1970 1971, ثم عاد للمنصب رئيسا مؤقتا من2006 2007 ويظهر من مسار كتاباته, اختياره موضوعات تتناول القضايا الحيوية, مثل جودة الحكومة, وغيرها من الأمور الاجتماعية, والسياسية, ومن مؤلفاته حالة الأمة, ومتاعب مع الحكومة. وحين بدأ بوك بقراءة الاستطلاعات والأبحاث التي أجريت عن السعادة, ركز علي مظاهر القوة والضعف في هذه الأبحاث, ومنها ما أرجع الإحساس بالسعادة إلي السياسات الخاصة بالتنمية الاقتصادية, وعدالة التوزيع, والتقاعد, والبطالة, والرعاية الصحية, والمرض العقلي, وبرامج الأسرة, والتعليم, وذلك ضمن موضوعات أخري. ثم حاول في كتابه أن يلقي الضوء علي الأسباب التي تجعل الشعوب سعيدة, والدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه الحكومة, في تعظيم حالة الرضا العام للناس, أي أنه ربط السعادة بالسياسة وبالحكم. ويستعرض الاستطلاع الذي أجراه معهد جالوب عن السعادة, في عدد من دول العالم, ومستويات الصعود والهبوط في شعور الناس بالسعادة, وأسبابها. كما استعرض عددا كبيرا من الاستطلاعات الأخري التي ربطت مستويات الشعور بالسعادة, بعدد متنوع من الأوضاع الاجتماعية والسكانية. واستخلص منها أن هناك دليلا علميا علي طرق الوصول إلي السعادة, يكفي لكي تبدأ الحكومة وضع سياسات فعلية لتحقيقها. وجاء الفصل الأول من الكتاب, حول سيكولوجية السعادة, وتقييم ومناقشة التطبيقات السياسية لبلاغ هذا الهدف. ثم تعرضت بقية الفصول لعلاقة السعادة, بالنمو الاقتصادي, وانعدام العدالة الاجتماعية, والمتاعب المالية الناتجة عن التقاعد من العمل, وفقدان الوظيفة, والرعاية الصحية, والتعليم, والمعاناة من ألم مزمن, واضطراب في النوم, والاكتئاب. ويقول بوك: إن رسم السياسة وتنفيذها, بناء علي معلومات خاطئة, لابد أن يؤدي إلي نتائج خاطئة وغير مرغوب فيها. وأن ما نحتاجه هو أن نكون متأكدين مما سنقدم عليه, قبل أن نسمح لأفكار مازالت أشبه بالتجارب في المعامل, بأن تصبح تجارب في الحكم والسياسة. فعل الخير للناس من مهام الحكومة والبرلمان ويري بوك أن الحكومة هي قوة عمل لكل ما هو خير للناس. وأن علي البرلمان الالتزام بالوقوف بجانب كل ما هو خير. كما أن لدي الحكومة, بما هو متاح لها من امكانيات ونفوذ, القدرة علي جلب السعادة. وأن الدولة مطالبة ببذل أقصي الجهد لجعل الناس يثقون بالحكومة, إذا كانت ثقتهم بما ضعيفة. ويري المؤلف: أن الأمريكيين لا يعتبرون الثراء مقياسا مطلقا للسعادة. صحيح أنه عامل مهم وأساسي, فالرخاء هو الذي رفع مستويات الشعور بالسعادة في الولاياتالمتحدة خلال النصف الأخير من القرن العشرين. لكن الظروف العامة والخاصة تتغير. وتتغير معها المشاعر, ولذلك ينبغي علي المسئولين ألا يربطوا ذلك بالنمو الاقتصادي وحده, كمقياس للسعادة ولتقدم الأمة. ويقول اننا لا نتجاهل دور انتعاش الاقتصاد, لكننا ننصح المسئولين بالتفكير في معايير أخري لقياس نجاح سياساتهم. فالتعليم مثلا له دور مهم, لكن يجب ألا تكتفي السياسة التعليمية, بخلق قوة عمل منتجة, لكن لابد للتعليم أن يعمل علي تعزيز مشاعر المسئولية الاجتماعية, واستقلالية التفكير الخلاق. وألا يكتفي صناع القرار بالاهتمام بالرعاية الصحية فيما يتعلق بالعلاج فحسب, بل بالعزم علي الاهتمام بعلاج ظواهر مصاحبة للأمراض, قد تبدو هامشية, مثل الاكتئاب, واضطرابات النوم, والألم المزمن, وهي أشياء لا تلقي الاهتمام من رجال السياسية, رغم أنها تحسب ضمن أسباب تناقص الشعور بالسعادة, وهي من مسئوليات الحكم. والمؤلف لا يتفق مع الرأي الذي يعتنقه الساسة في بلاده, من أن النمو الاقتصادي هو الأساس في اعتبار من ينعمون به هم السعداء. ويدلل علي رأيه بالاعتقاد الذي كان قد ساد بأن الشعوب الغنية هي الأكثر سعادة من شعوب الدول الفقيرة. بينما الدراسات الحديثة في دول غنية مثل كوريا الجنوبيةوالولاياتالمتحدة, تشير الي ان شعوبها هي, اليوم أقل شعورا بالسعادة, مما كانت عنية, منذ خمسين عاما, رغم تزايد متوسط دخل الفرد. ويدلل علي رأية بدراسة أجريت أخيرا في كندا, أظهرت ان سكان الأقاليم الفقيرة نسبيا مثل نيوفوندلاند, ونوفاسكوتشيا, هم الأكثر سعادة, بالمقارنة بسكان الأقاليم الأكثر ثراء, مثل أونتاريو, وكولومبيا البريطانية, فهم يدرجون ضمن الأقل شعورا بالسعادة. السعادة هي ما أحتاجه الآن ويقول: ان معيار السعادة يتوقف علي تحديد ماهو الشيء الذي يري الناس انهم في أشد الاحتياج اليه عن غيره. ويقول ان الثروة مجرد وسيلة الي ذلك, لكن هناك أشياء أخري عاجلة, واذا لم تتحقق فالسعادة غير مكتملة. ولذلك فهو يوصي بأشياء أخري لابد ان تتوافر لتكتمل السعادة, أولها: جودة الحكومة, وهي تلك التي يكون لديها فهم وقدرة علي توفير بقية العوامل المكملة, حتي تكون هناك بالفعل سعادة. المؤلف يقدم وصاياه لصانع القرار السياسي, لأن يعمل علي الدفع باجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية, وتحسين الصحة العامة, وعلاج مشاكل البطالة, وتوفير ظروف استقرار الأسرة, والزواج, والعلاقات الاجتماعية, وكلها تعظم من مشاعر السعادة. استطلاع الأمل واليأس من أغرب الأشياء, ما أظهره استطلاع لمعهد جالوب شمل35 دولة في أوروبا, بعنوان استطلاع الأمل واليأس, وخرج منه بنتيجة تقول إن فرنسا هي الأمة الأكثر تشاؤما. تليها أيسلندا, ورومانيا, والصرب. وهو ما دفع صحفا فرنسية الي التعليق علي ذلك, بدعوة الرئيس ساركوزي, لأن يضيف السعادة الي معايير الثروة الوطنية. وقال الاستطلاع ان الدول الصاعدة اقتصاديا, مثل الصين والبرازيل, والهند, لديها نظرة وردية متفائلة. وان من بين الدول الفقيرة والمتشائمة معا, أوكرانيا, وبلغاريا, والصرب, ولاتفيا, ورومانيا. لكن ظهرت وجهة نظر منطقية تفسر شعور التشاؤم لدي الفرنسيين, بأنه أمر نسبي, لايمكن القياس عليه, كمعيار للسعادة, وهي وجهة نظر الفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنز, الذي قال نحن الفرنسيين تحسنت أحوالنا المعيشية, كلما شكونا اكثر من أحوالنا. شعوب سعيدة وشعوب تعيسة من الأمور المستقرة في الفكر السياسي لعلماء السياسة في الغرب, وايضا عند العرب, وهو ماعبر عنه الفيلسوف الفارابي, ان للدولة هدفا عاما, هو تحقيق شعور يسمي السعادة. وربطوا السعادة بوظيفة الحكم وبنظام الحكم. لكن التشخيص لمعني السعادة, كان يأتي عادة كصياغة فلسفية. وحين بدأت تظهر دراسات حول ما اذا كانت هناك شعوب يمكن وصفها بشعوب سعيدة, وشعوب أخري تعيسة, فإنها كانت عبارة عن عمليات استقصاء للحالة, دون ان تقترن بها, رؤية عامة للظاهرة وتحليلها. لكن ظل هناك مفهوم عام يجمع كل الرؤي التي سعت لتحديد وجود حالة السعادة لدي شعب دون غيره. وهو مفهوم الرضا بالحال. لقد لحق التغيير بالعالم بعد بدء عصر ثورة المعلومات, والتداخل بين الشعوب وبعضها, عبر وسائل الاتصال التكنولوجية الحديثة, التي جعلت كل شعب يطلع علي احوال الآخرين, وكأنه ينظر اليهم من نافذه تطل عليهم مباشرة. وذلك بعد تلاشي تأثير الحدود التقليدية بين الدول وبعضها. وأدي ذلك الي انتقال عدوي أوضاع معينة من شعب الي غيره. وهو مايمكن أن يقلص من حالة الرضا بالحال, بسبب شعوره بأنه تنقصه أشياء مهمة تتوافر لغيره, وهو ما لم يكن يشعر به من قبل. ومن ذلك مثلا: الديموقراطية, والمشاركة في القرار والتأثير عليه, والقدرة علي حل المشاكل بطرق ابتدعتها دول أخري, وقد تكون متوافرة لديهم. ثم ان السعادة كمطلب, قد تختلف معاييرها حسب الزمان والمكان. فهناك دول تنعم بتحسن اقتصادي لكن ينقصها الشعور بالسعادة. ودول خاضعة للدكتاتورية, وقد تكون مستوياتها المعيشية مرتفعة, إلا أن الكبت السياسي, ينزع منها اي شعور بأثر تحسن المعيشة. وفي دول غنية قد يقلص من السعادة, عوامل أخري مثل التفكك الأسري, وتراجع الشعور بالتدين وقيمة. ان الفكرة الرئيسية في كتاب سياسات السعادة هي طرحها السعادة كوظيفة ومهمة أولي للحكومات, اذا هي وضعتها علي قمة اولوياتها, كمفهوم ومبدأ, فسوف تستطيع بعد ذلك ان تحسن إدارة كافة سياسات الدولة, سياسية, واقتصادية, وثقافية, واجتماعية.