إن المسرح في حياة ألبير كامي يمثل حالة نفسية، فهو يلجأ إليه في كثير من أوقات الضيق والشدة النفسية فيجد نفسه في رحاب أحلامه مبدعاً يعبر عما تجيش به نفسه المعذبة وكثيراً ما كان يودعه كثيراً من آلامه وآرائه، ولم تكن كتابة ألبير كامي للمسرح من باب التوزيع والتنويع في الإنتاج الأدبي من كتابة الأبحاث الأدبية إلي القصة القصيرة والطويلة، إلي الإبداع المسرحي الذي يميل إليه - كامي- كل الميل. ألبير كامي ظهر في وقت مبكر، حيث أسس وهو في الجزائر فرقة مسرحية صغيرة شارك في إدارتها وكذلك قام بتمثيل بعض الأدوار، وهذه الفرقة قدمت أعمالاً مسرحية سرعان ما منعت رقابياً وسلطوياً مثل مسرحية «ثورة الأسنوري» والتي كتبها كامي للفرقة بالاشتراك مع بعض رفاقه من عشاق الكتابة للمسرح، وكان موضوعها يدور حول «ثورة العمال في المناجم، وبشكل خاص جداً- مناجم «أوفيادوا» باسبانيا عام 1934، ولم يتوقف كامي عن الكتابة، بل زاده مصادرة هذه المسرحية إصراراً علي ان يكتب للمسرح، فاقتبس عن رواية «عهد الاحتقار»، لأندريه مارلو ثم مسرحية «برومشيوس» لاسخيلوس ومسرحية «الباخرة» عن فيلدران - الباخرة تيناستي- والمرأة الصامتة للكاتب الكلاسيكي- بن جونسون- ثم «الإخوة كرامازوف» لدسيتوفسكي وقام فيها بدور- إيفان- وبعد هذه المسرحية راح يصب فكره في المسرح علي مشاكل عصره التي تلاحقه من غير ان يجد مبرراً للهروب، فقد هرب من المرض الشديد الذي ألم به في أوائل حياته بأن لجأ إلي الوظيفة، التي لم تفلح في صرفه عن عشقه للمسرح واهتمامه به ويظل - كامي يتذكر الأيام التي ألف فيها بالاشتراك مع أحد أهم أصدقائه المقربين إلي نفسه، وذكريات زمالة الفرقة المسرحية، التي كان يمارس فيها تمثيل بعض الأدوار، وأخذ يقرأ في المسرح ويتوغل في ثقافة النصوص لكتاب عظام، واستوقفه ديستوفسكي- كثيراً فقد عشق كامي هذا الكاتب عشقاً اسطورياً، فقد أثر ديستوفسكي في مناح كثيرة من تفكيره. وحين أعلنت الثورة في الجزائر عام 1956 آثر كامي ان ينسحب وان يصمت وكأنه سقط فريسة تمزقه تلك الأحداث والتطورات المتلاحقة، فمنذ قيام هذه الثورة العظيمة والإعلان عنها وبهجة الشعب الجزائري والعربي كله بها حاول كامي ان يخرج عن عذاباته وتمزقه النفسي، فانصرف إلي ابعد الاقتباسات المسرحية، فكانت مسرحية «انشودة إلي قديسة» التي أعلن من خلالها عن حنان دفين في نفسه للوقوف مع ثورة الجزائر وقضية الحرية للشعب الجزائري، فانحاز مع الحرية والتآسي علي كل الضحايا الذين سقطوا في ميدان القتال والاستبسال، فكتب تعبيراً عن هذا الانحياز مسرحية «اسطورة سيزيف» واستعار شخصية - هاملت-في وليم شكسبير ليقول كلمة علي لسان هذه الشخصية «.. أريد ان أصل إلي ان استحوز علي قلب الملك» وكلمة «استحوذ» هي التي لا غني عنها للتعبير عما كان يدور في ذهن - هاملت- شكسبير، ذلك كان القلب عند كامي من منطلق هذا التعبير بأن القلب هو العضو دائب الحركة يركض مسرعاً أو يلوي علي نفسه بأن الانسان أي إنسان لا يروقه التمهل في شيء، وانما هو مخلوق عجول يستحثه دائماً الآخر إلي فهم المعني للإقدام نحو مبتغاه، ولكن الرحلة في النهاية قد لا تنبئ بشيء قد يثير الاهتمام بقدر ما يحفز الإنسان ما يحظي به من مواهب وامكانيات، وبنوع خاص متعة التلقي للمسرح الذي يقف كامي عنده ويطيل الوقوف، يتأمل مصائر كل من يمثل في مسرح «الحياة» أو فوق منصات المسارح، وكلهم يسعون إلي مصائر الآخر ليقف عند حقيقة كل شعور يجعل الإنسان معجبا بالآخر إعجاباً الذي لا يزول، ويفلسف كامي كل شيء، وهو يشعر بالوجود كله في داخل نفسه وقد كتب اسطورة سيزيف فصلاً كاملاً عن الدراما استهله يقول هاملت لكي يدلل علي معني كلمة الاستحواذ هذه التي كانت محركاً له في كل ما كتبه فيما بعد، علي ان كامي، اليذ يصعب فهمه كأديب له قيمة كبيرة إلا من خلال الفلسفة التي طغت علي الجانب الإبداعي عنده، ولكنه حين بدأ في صياغة درامات- المحال- في زماننا الحديث، والتي لها صك الحياة بيننا حتي الآن، وتمتد إلي أجيال قادمة، فهو يضع فلسفته في كل تجربة يهدف إلي أن ابطالها يحلمون بمجد لا يعرف أبداً الزوال، ولدينا نموذج من أعماله مثل «دون جوان» والوجه الآخر له، الممثل، كلاهما صورة حديثة من سيزيف السعيد بما يفعل!؟ والعمل في المسرح كان شغل البير كامي الشاغل، إلي آخر حياته، لدرجة ان آخر ما خطته يداه كان مقالاً عن المسرح بعنوان «حياتي في المسرح» نشرته له مجلة الفنون المسرحية، وكان قد أذاعها في التليفزيون الفرنسي يقول فيها: «كثيرا ما سألت نفسي هذا السؤال، لماذا اشتغل بالمسرح؟ والإجابة قد تثير دهشتكم .. أقول لكم ببساطة، ان المسرح يغمرني بالسعادة والحديث عن السعادة في هذه الأيام موضوع حساس، ان الناس يجرون وراء السعادة يلهثون وهم يبحثون عنها، يخفونها حتي عن أنفسهم، الإنسان الذي يعيش سعيداً في هذا العهد كأنه يعيش في الخطيئة، لا تقل في براءة دون ان تضع حسابك ان هناك شيئاً اسمه الشر، ان قلت أنا سعيد، فستجد حولك من يقول لك في سخرية: أأنت سعيد يابختك. وهذا ما فعلت من أجل المساكين واليتامي والمعذبين في الأرض؟ ومع هذا فأنا أعتقد بأن الإنسان لا يمكن ان يقدم خدمة للبؤساء إلا إذا كان قوياً وسعيداً، فالإنسان الضعيف الذي ينوء بحمله، ويعتبر حياته عبثاً لا يطاق، لا يمكن ان يساند الآخرين، مثل هذا العمل لن يتحمله إلا من يستطيع السيطرة علي مشاعره وحياته- هل من الغريب في مثل هذه الظروف، ان يبدو العالم مريضاً؟ ويصبح من الصعب ان يجد فيه الإنسان صورة السعادة ، خصوصاً إذا كان ذلك الإنسان كاتباً، وبرغم هذا فأنا احترم السعادة، وأنا حيثما اشتغلت بالممسرح اشعر بهذه السعادة، لقد اشتغلت بالمسرح أكثر من عشرين عاماً، وسأظل اشتغل بالمسرح ولا أحسب انه بالإمكان التخلي عنه. وفي عام 1936 أعاد كامي تنظيم فرقة مسرحية في الجزاذر واستطاع هو وأعضاء الفرقة ان تقدم هذه الفرقة مسرحيات كل من مارلو ديستوفسكي وقد اكتشف كامي في هذه الحقبة حقيقتين، إحداهما متعلقة بكامي شخصياً، والثانية متعلقة بالمسرح، وانه لم يزل علي تذكرة في هذا المقال بأنه حينما أخذ عن مارلو مسرحية المأخوذ ليعرضها في فرنسا من خلال فرقته وأصدقائه، وطاف بها أنحاء فرنسا حتي انه شعر بالإرهاق، وان المتاعب تحاصره، فقرر ان يهرب من مشاكله ولكنه لم يجد دواء لأمراضه، إلا المسرح، ولقد كانت مشاركته زملاؤه له هذا العشق أكبر الأثر في ان يكتب للمسرح، ويكتب المقالات وتقرأ له: «.. لا تصدقوا ان الكاتب يمكن ان يعيش منعزلاً، فإذا كان مخلوقاً صحيحاً معافياً نفسياً، فسوف تأتي الساعة التي يحتاج فيها لأن يظل علي وجوه الآخرين ويشعر بحرارة الاتصال الإنساني، ان الكاتب الذي يعيش منعزلاً بعيداً عن الناس لا يتكلم إلا في الفراغ، وفي المسرح يحتاج الكاتب للاعتماد علي الآخرين، فالمخرج يحتاج إلي الممثل والممثل يحتاج إلي المخرج، هذا الاعتماد المتبادل القائم علي حسن النية يؤدي إلي خلق إحساس هذا التضامن الكامل في العمل المسرحي بدون ان يفقد أحد- يقال ان الفشل يؤدي إلي التفكك،وكذلك النجاح وهذا خطأ ان هذا يمثل وحدة العمل الذي لا يتفتت إلا إذا تلاشي الأمل الذي يربط تلك الوحدة، ففي المسرح تظل وحدة العمل المسرحي قائمة علي الأمل في اليوم الموعود الذي يرفع فيه الستار لتقديم المسرحية إلي الجمهور. ويقول كامي: إنني أحب مهنتي المسرحية، فالمسرح يجعل رأسي تشتغل وتفكر، وقد استفدت كثيراً وأصبحت أؤمن بأن العمل الفني لا يحتاج إلي الواقعية وحدها، ولا للخيال، وحدة المتصل بالواقع، هذه هي الأسباب التي دفعتني إلي المسرح.. لكنها أسباب شخصية بحتة أسباب تتعلق بي كإنسان، هناك أسباب أخري تنطلق بي كفنان.. فأنا كفنان أجد المسرح مكاناً للحقيقة خذ مثلاً أحد الممثلين الهواة.. ضعه علي خشبة المسرح.. سلط عليه الضوء بقوة أربعة آلاف وات.. وستكتشف ان التمثيل غير محتمل، وستري ذلك الممثل مجردًا عارياً في ضوء الحقيقة.. ان الأضواء لا ترحم، وزيف الدنيا كلها، وافك الدنيا كله، لن يستطيع ان يخفي حقيقة الإنسان علي المسرح مهما تنكر وارتدي من ثياب.. صدقوني ذا أردتم الحقيقة عارية من غير زيف ولا بهتان، ضعوها علي المسرح وحينئذ ستطل عليكم وهي مشحونة بالحياة، لقد استطعت ان أوفق بين عملي ككاتب وعملي في المسرح، فالمسرح يعني بالنسبة لي، أرقي أشكال الأدب ولقد عرفت مخرجاً كان ينصح قائلا: «اكتبوا أو مثلوا للشخص الوحيد الذي يستطيع ان يفهم» ولم تكن تلك النصيحة تعني ان يكون الكاتب والممثلون أغبياء أو أناساً عاديين ولكن النصيحة كانت تعني ان يحاولوا مخاطبة كل فرد.. ومخاطبة كل الناس والكتابة لهم ليست أمراً سهلاً. هناك كتَّاب يخطون إلي مستوي أكثر الناس غباء، وصدقوني إذا قلت لكم ان مثل هؤلاء الكتاب دائماً ينجحون.. وهناك كتَّاب لا يخاطبون إلا الأذكياء.. ومثل هؤلا يفشلون دائماً، أما المؤلف الذي يستطيع مخاطبة كل البشر ببساطة الكاتب الذي يكتب لجميع الناس في وضوح، سامياً، بموضوعاته، فهو الذي يحترم قضية الفن.. انه يجمع كل مشاعر الناس في حركة واحدة، أو كلمة واحدة. وألبير كامي حينما كتب- كاليجولا- عن الإمبراطور الرومااني سفاك الدماء المستبد برأيه، الذي كان يقول عن شعبه: ليبغضني كما يشاء وحسبي انه يخافني» وانهت هذه السياسة ضد الطاغية وسياسة حكمه بالقتل، وقد تجسدت في هذه المسرحية فلسفة البير كامي الوجودية وان كامي كانت له رؤي إصلاحية بالمسرح وقد حاول ان يكون كاتباً ومشاهدا يعني ما يمكن ان يقدم له فوق خشبات المسارح.