كانت البداية في عام1990 عندما نشرت مقالا قصيرا بالأهرام طالبت فيه بقبول الرقابة الخارجية علي الانتخابات المصرية للبرلمان في ذلك العام. كانت أسبابي لذلك كثيرة, وقع في مقدمتها أسباب آنية في ذلك الوقت حيث انقسمت القوي السياسية المصرية ما بين مشارك في الانتخابات ومقاطع لها. وكان حدوث ذلك إبان الأزمة العراقية/الكويتية التي مزقت ذات القوي ما بين مؤيد ومعارض للسياسة المصرية في الأزمة مزعجا من زاوية أنه في أوقات الأزمات الكبري, خاصة التي تشارك فيها مصر بالقوة العسكرية, كان لازما حدوث وحدة وطنية سياسية كافية لإعطاء مصر ما يكفي من القوة للتعامل ليس فقط مع الأزمة ولكن أيضا للتعامل مع عالم جديد بالفعل. ولكن ذلك لم يكن كل الأسباب حتي لو كانت دافعا أساسيا لطرح موضوع الرقابة الخارجية من الأصل; فقد كانت هناك عوامل أخري نبعت من المسيرة التعددية التي جرت علي النظام السياسي طوال أربعة عشر عاما منذ بدايتها في عام1976. فما حدث خلال هذه الفترة أن أربعة انتخابات جرت 1987,1984,1979,1976 سارت علي نمط واحد رغم اختلاف النظام الانتخابي في اثنين منها قاما علي نظام الدائرة الانتخابية, والآخران قاما علي القائمة النسبية, وهو اكتساح حزب مصر أو الحزب الوطني الديمقراطي فيما بعد لأكثر من ثلثي عدد المقاعد من ناحية, واتهام أحزاب المعارضة باستمرار لهذه الانتخابات بالتزوير. كان الأمر قد أصبح أشبه بتمثيلية يفوز فيها الحزب الوطني, والمعارضة تتهم الحزب بالتزوير, ولا يبقي أمام الحكم في كل الأحوال إلا الدفع بأن المسألة برمتها في يد القضاء الذي عندما يحكم ببطلان الانتخابات يقرر البرلمان أنه سيد قراره في إقرار التزوير أو رفضه. كان حل هذه الإشكالية من الأصل هو البحث عن طرق مختلفة لشرعية العملية الانتخابية برز من ضمنها ما لجأت إليه بلدان أخري في أوروبا الشرقية لتلافي الخلافات حول شرعية الانتخابات باستحداث آليات تحدد المدي الذي وصلت إليه نزاهة العملية الانتخابية من خلال اللجوء إلي ما عرف بالرقابة الخارجية. المعضلة التي حدثت في مصر كانت زوبعة كبيرة من الرفض جاءت من كل الاتجاهات من أول الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم حتي أكثر الأحزاب تطرفا في المعارضة. حتي الأصدقاء من المثقفين, والأقرباء من العائلة, وجدوا في ذلك اعتداء علي السيادة المصرية من ناحية, وخروجا علي الوطنية المصرية من ناحية أخري. لم يكن ممكنا للنضال الوطني الطويل من أجل رفض التدخل الأجنبي أن يقبل, أو هكذا قيل, تدخلا للرقابة علي الانتخابات. والحقيقة أن ذلك لم يكن مقنعا كثيرا, حيث كان المجتمع المصري كله قابلا بالتدخل الأجنبي في إدارة مباريات كرة القدم, وفي أمور كثيرة بدأ المجتمع الدولي يفرض نفسه فيها في إطار عملية العولمة المتزايدة, والأهم من ذلك كله أنه لم يكن ممكنا بناء الثقة داخل المجتمع المصري في العملية السياسية دونما شهادة علي مصداقية ونزاهة العملية الانتخابية. ظلت الحال كذلك طوال الانتخابات التالية وخاصة خلال الانتخابات الأخيرة للبرلمان; ولو أن الحزب الوطني الديمقراطي قبل هذه الرقابة الخارجية علي الانتخابات لربما تفادي ما وصل إليه الأمر من ثورة شعبية, كانت نتيجة تلك الانتخابات أحد مسبباتها. صحيح أن مثل هذه الرقابة لم تكن هي الوحيدة التي كانت ستغير التاريخ, ولكنها كانت ستكون علي أي الأحوال جزءا من الإصلاحات المقبلة خاصة أن المعارضة لها تآكلت بفعل السنوات, وبفعل ملاحظة العالم الخارجي. الغريب في الأمر أنه لم يحدث أبدا أنه جري بحث جدي لما تعنيه الرقابة الخارجية للانتخابات. وهنا ينبغي التفرقة بين مفهومين أساسيين: مفهوم رقابة الانتخابات ومفهوم الإشراف علي الانتخابات. بالنسبة للمفهوم الأول الرقابة في أدبيات الدراسات البرلمانية هو متابعة حيادية بشأن سير العملية الانتخابية من الألف إلي الياء, بدءا من إعداد كشوف الناخبين ولجان الانتخابات ورصد البيئة والحملات الانتخابية لكافة القوي السياسية إلي جانب معرفة اتجاهات التصويت والفرز وإعلان النتائج, والتأكد من عدم حدوث أي تجاوزات أو انتهاكات أو تلاعب أو تزوير, وإضفاء صفة الشفافية والنزاهة علي هذه العملية, وضرورة إجرائها وفقا للمعايير الدولية, وكتابة بعض التقارير وإبداء بعض الملاحظات. وتنقسم الرقابة علي الانتخابات, سواء كانت انتخابات برلمانية أو رئاسية, إلي نوعين رئيسيين: الرقابة الوطنية, التي تقوم بها أجهزة الدولة المختلفة( اللجنة العليا للانتخابات واللجان الانتخابية) وكذلك مؤسسات المجتمع المدني, ويطلق عليها في بعض الأحيان الرقابة الإدارية. أما النوع الثاني من الرقابة فهو الرقابة الدولية أو الأجنبية وتنقسم بدورها إلي فئتين فرعيتين هما: الرقابة التي تقوم بها الأممالمتحدة( حالة الدول المشمولة بوصاية الأممالمتحدة وهي رقابة إجبارية), ويطلق عليها البعض الآخر إشراف علي العملية الانتخابية, حيث تشترك منظمات دولية مع الحكومات الوطنية في الإشراف علي الانتخابات, وهو ما يمس السيادة الوطنية والشئون الداخلية, وهو ما تعبر عنه الحالة العراقية. فالجهة المشرفة علي العملية الانتخابية هناك هي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات, التي تستعين بجهات دولية للإشراف علي الانتخابات. والرقابة الأخري اختيارية وهي التي تتم من خلال دعوة مراقبين دوليين تابعين لمنظمات غير حكومية يهتمون بالعمل الحقوقي والتطور الديمقراطي في العالم, مثل مؤسسة كارتر والمعهد الدولي الديمقراطي والمنظمات التابعة للاتحاد الأوروبي. ودعت العديد من دول العالم مثل روسيا والولايات المتحدةالأمريكية ومعظم دول الاتحاد الأوروبي والصين منظمات دولية مثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبية للرقابة علي انتخاباتها. كما استعانت عدة دول في المنطقة العربية بالرقابة الدولية مثل المغرب والبحرين واليمن والجزائر وموريتانيا وفلسطين والعراق ولبنان فضلا عن تركيا, إلي جانب دول آسيوية وأفريقية وأوروبية أخري. وببساطة باتت عملية الرقابة أو الإشراف الانتخابي الدولي مؤسسا ويقوم علي تقاليد تراكمت عبر السنوات حول قياس نزاهة الانتخابات في البلدان المختلفة حول درجة تقدمها الاقتصادي والاجتماعي حسب التباينات المختلفة بين دول العالم من حيث عدد السكان والمساحة والتقاليد البرلمانية والليبرالية واتساع الطبقة الوسطي وعمق تقاليدها. بمعني آخر باتت عملية الرقابة التي تقوم بها المؤسسات الدولية قائمة علي درجة عالية من الاحتراف الذي لا يعتبر عملية الرقابة نوعا من التصيد للمخالفات الانتخابية, وإنما هي عملية من التقييم المتوازن لمدي مصداقية الممارسة الانتخابية. أعيد هنا وأسجل أن الرقابة الخارجية عن الانتخابات ليست هي الطريق الوحيد لضمانة الانتخابات, ولا الانتخابات وحدها هي الضمانة الكافية للديمقراطية, ولا الديمقراطية وحدها هي الطريق لنظام سياسي فعال في مصر يستطيع أن يواجه المشكلات الملحة التي تواجهها مصر. فهناك نقاط أخري لا تقل أهمية, فالأصل في قضية الرقابة من عدمها أنها تتعلق بأمرين: الأول هو أن النظم السياسية المختلفة لا تستطيع إدارة الدول بفعالية وكفاءة ما لم يتوافر لها قدر هائل من الثقة من قبل مواطنيها. فكرة الثقة هذه لم تلق اهتماما كبيرا من الفكر السياسي المصري, بل إن جزءا مهما من التصدع الذي جري في النظام المصري يعود في جوهره إلي تلك الثقة المفقودة بين النظام والجموع المختلفة بمن فيهم هؤلاء الواقعون داخل النظام نفسه لأسباب مختلفة. صناعة الثقة هذه توجد من ممارسات النظام, وحفاظه علي وعوده, ونوعية الأشخاص الذين يستخدمهم, ومدي كفاءته وقبوله من الأصل لعملية تداول السلطة والقبول بها. كل هذه القائمة شحبت في النظام المصري خلال السنوات الأخيرة رغم إنجازاته الاقتصادية المتعددة, نتيجة لعدم وفائه بوعوده في إلغاء قانون الطوارئ, ووضع قانون جديد للانتخابات يقوم علي نظام القائمة النسبية, والقبول بأنواع من الرقابة المقبولة من الجماهير. كان هناك أيضا الهزيمة الإعلامية الساحقة للنظام في معركة الثقة هذه لأسباب شتي ربما تحتاج إلي مقال مستقل, ولكن نجحت قوي مختلفة في ايجاد صورة فاسدة للنظام يقوم فيه تزاوج السلطة مع المال, ووجود النية لتوريث السلطة وتمديدها لفترات متتابعة. وببساطة أصبح ذلك نوعا من القناعة الذائعة التي تتوالدها وتتوارثها أجهزة إعلامية كثيرة داخل البلاد وآخرها. والثاني هو سيادة القانون حيث تكون العملية الانتخابية بالإضافة إلي طبيعتها السياسية القائمة علي المنافسة بين أطراف متعددة ولديها توجهات وبرامج متعددة; ولكنها من جانب آخر لها جوهر قانوني يعتبر كل ما يخص العملية الانتخابية, والعملية السياسية ككل, تقع ضمن مرجعية قانونية لها أصولها الدستورية أولا, والقانونية ثانية, والإجرائية ثالثا. فما بين سجلات الناخبين, وبطاقاتهم الانتخابية, حتي إدلاء المواطن وتصويته وفرز أصواته, توجد سلسلة طويلة من العمليات التي تستند إلي القانون ومرجعيته. مثل ذلك كله لا يمكن أن يتم دون إيمان كامل لدي الشعب والسلطات العامة بسيادة القانون, وإن المرجعية العائلية أو القبلية أو الحزبية لا تصلح لكي تجعل الانتخابات نظيفة ومقنعة لبقية المواطنين. مثل ذلك في الانتخابات ليس معزولا عما تعنيه سيادة القانون في المجتمع كله في مناح متعددة, فلا توجد انتخابات نظيفة وذات نزاهة بينما سيادة القانون معدومة أو شاحبة في حياة المجتمع. والخلاصة أن الرقابة أو الإشراف الدولي علي الانتخابات ليس إلا بعدا واحدا من الصورة, قد لا يكون كافيا ولكنه ضروري وبدونه تضيع الثقة, ومعها سيادة القانون, وفي النهاية بشكل أو آخر الدولة والمجتمع معا.