لا بد أن نعي جيدا أن العرب والمسلمين حققوا نهضتهم التي طرقوا بها أبواب أوروبا قبل عدة قرون عندما سادت ثقافة التقدم وتراجعت ثقافة تقديس الماضي, وهذا الذي فعله أجدادنا هو الذي يسميه الغرب المتقدم الآن الحداثة فقد سار العرب والمسلمون علي درب التقدم, وفي أجندتهم بنود واضحة لنهضة الحاضر ورفعة المستقبل, وعندما تخلوا عن هذه الأجندة إثر نكبة الأندلس بدأت مسيرة التخلف وواكبها في ذات الوقت انطلاق الأوروبيين باتجاه التقدم. في عصر النهضة العربية والإسلامية كان هناك فهم صحيح لمعني ومغزي الحرية الذي يتجاوز حدود حرية الرأي وحدود حرية التعبير لينطلق إلي الآفاق الرحبة لحدود حرية الاجتهاد وحدود حرية البحث العلمي باستثمار العقل والاحتكام إليه وباستخدام العلم ومناهجه وتطبيقاته في خدمة استحقاقات التطور. ولعل من أبشع الأخطاء التي يقع فيها الخطاب الإعلامي العربي أن يردد البعض- عن جهل ودون وعي- تلك المقولات الخبيثة والمريبة في الخطاب الإعلامي الغربي هذه الأيام والتي تضع الإسلام في مواجهة تصادمية مع الحداثة. إن علينا أن نعي جيدا أننا أول من ابتدع مفهوم الحداثة, دون أن نطلق عليه أي مسمي, وأن العلماء الفطاحل من أمثال بن حيان, وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم والكندي والغزالي وغيرهم, هم الذين حملوا مشاعل التنوير للإنسانية كلها ووضعوا البذرة الحقيقية لمنهج الحداثة والتطور بالمزج الأمين بين الإيمان المطلق بالله والثقة في قدرة العقل البشري علي الإعجاز, انطلاقا من روح الثقافة الإسلامية الصحيحة التي تؤمن بأن الله قد استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وتعميرها وإقامة العدل وإشاعة الرحمة فوق ربوعها بصرف النظر عن اختلاف الأديان والأعراق. ومن الجحود أن ينكر أحد أن علماء المسلمين الأوائل هم الآباء الحقيقيون للنهضة الأوروبية الراهنة بما نقلوه إلي أوروبا من مناهج علمية استحدثوها باجتهاداتهم, اعتمادا علي ثقافة صحيحة للفكر الإسلامي تؤمن بحرية التفكير والتعبير وفي الوقت نفسه تتجاوز عن الخطأ والسهو في مسيرة البحث والاجتهاد! وخلاصة القول: إننا لسنا بعيدين عن الحداثة والتطور لأنها ولدت من رحم ثقافتنا العربية والإسلامية الصحيحة ومن ثم فليس صعبا ولا مستحيلا أن نستعيد المكان الطبيعي والمكانة اللائقة في معادلة الحضارة الإنسانية المعاصرة, وذلك بسرعة العودة إلي لغة العقل التي تعكس امتلاكنا من جديد لمنهج فكري واضح يحدد ما الذي نريده... وكيف السبيل إلي بلوغ ما نريد؟ بالعقل وبالعقل فقط يمكن لنا أن نصحح أوضاع الحاضر, وأن نرتفع بسقف الطموح نحو المستقبل! بالعقل وبالعقل فقط نحقق حلم الإصلاح والحداثة ونتجنب كل خطر في الحاضر وكل مجهول في المستقبل! خير الكلام: كل شيء يحتاج إلي معلم ما عدا الشر!