قرأت ماكتبه الدكتور جابر عصفور ونشرته له الأهرام قبل أمس بعنوان وماذا عن المستقبل الواعد؟, وأنا أحييه علي تصديه, وهو الناقد الأدبي, للاجابة علي الأسئلة الخطيرة التي تصدي لها بعد أن أصبحت مطروحة علينا جميعا بإلحاح شديد تطلب التفكير فيها, والوصول الي اجابات مقنعة لها. وأحيي الأهرام علي سعة صدره ونشره هذه المقالة التي ستفتح المجال أمام الكثيرين لمناقشة ماطرحته من أسئلة وما قدمته من اجابات لابد أن نتفاهم حولها, وأن نصل فيها الي اتفاق نلتزم به ونعمل بما جاء فيه وإلا اختلطت المسالك, وغامت الرؤي, وتركنا أنفسنا عرضة للانفجارات المفاجئة والمغامرات غير المسئولة. وقد رأينا أن دوام الحال من المحال, وأن الشعوب, قد يطول صمتها, لأن نفسها طويل, ولأن عمرها ممتد, لكنها في النهاية لابد أن تنفجر, لأنها لا تستطيع أن تغادر وطنها, ولا تستطيع أن تفر في طائرة! فإذا أردنا أن نستفيد من الدرس ونتجنب الوقوع فيما لا تحمد عقباه, فمن واجبنا أن نعترف بما نواجهه, وأن نجتهد في معرفة أسبابه والعبور إلي بر الأمان, وإلا فالسكوت قاتل والإنكار كارثة!. وقد استطاع جابر عصفور أن يذكرنا بأهم الأسئلة المطروحة علينا في هذه الأيام, وأن يضعها في سياق يساعد علي فهمها وإدراك علاقة بعضها ببعض. وذلك في مقالة انتفع فيه لاشك بما كتبه غيره ممن تعرضوا لهذه الأسئلة من قبل, وتمكن بذلك من أن يضع يده علي جوهر المشكلة التي كانت تعالج في كثير من الأحيان أطرافا متباعدة, وسؤالا بعد سؤال, وبحذر شديد يصل إلي حد التلعثم, ويمنع من قول الحقيقة. لقد كنا نقرأ عن ارتفاع الأسعار وتدني الأجور. ونقرأ بعد ذلك عن تدهور الخدمات, وانهيار مستوي التعليم في المدارس والجامعات المصرية. وعن تفشي الأمراض, وانعدام الرعاية الصحية. وعن تحول الطب إلي تجارة. وعن انتشار الرشوة وتفشي الفساد. وكنا نقرأ من ناحية أخري عن التطرف والمتاجرة بالدين واستغلال دور العبادة وأجهزة الإعلام في الدعاية لجماعات الإسلام السياسي وإثارة الفتنة الطائفية, وتحريض العوام علي الكتاب والشعراء والفنانين المصريين. ثم كنا نقرأ عن انتهاك حقوق الانسان, وعن قنوط المصريين ويأسهم من تغير الأوضاع, وعزوفهم عن ممارسة حقوقهم السياسية, والخروج من هذا المناخ الراكد الذي نعيش فيه. ونحن نعرف الحكاية التي تتحدث عن جماعة من المكفوفين الذين قابلوا حيوانا لايعرفون ماذا يكون, وأرادوا أن يشخصوه عن طريق اللمس ويسموه, فمنهم من أمسك ذيله, ومنهم من تحسس ساقه, ومنهم من وصل إلي أذنه, ومنهم من لمس خرطومه, لكنهم لم يدركوا في النهاية أنه الفيل, ولعل بعضهم عرفه, لكنه تردد في الإفصاح عما عرفه, لأنه لم يكن واثقا, أو لم يكن مباليا بالقدر الكافي, وربما كان خائفا لسبب مجهول أو معلوم. لكن جابر عصفور في مقالة الاثنين الماضي كان يعرف مايتحدث عنه, وكان حديثه صريحا مسئولا. لقد تحدث برفق وعفوية عن فقراء المصريين الذين ينتسب لهم كما أنتسب لهم أنا أيضا وكما ينتسب معظمنا, هؤلاء الذين يزدادون فقرا علي فقرهم, في الوقت الذي يزداد فيه الأغنياء, بغير حق في كثير من الأحيان, غني علي غناهم. ثم تحدث بصراحة عن المثقفين الانتهازيين المتسلقين والكتاب المنافقين, وعن الحكومة المراوغة, وعن وسائل الإعلام التي تستخدم للتنفيس أو للتنفيث الذي قد يؤخر الانفجار, لكنه لا يقضي علي أسبابه, والدليل علي ذلك ماحدث في تونس. والحل إذن كما نستطيع جميعا أن نستنتجه هو الإصلاح السياسي, وهو منع احتكار السلطة, والعمل علي تداولها, وإفساح الطريق للمعارضة, لأن العمل الوطني لايكون إلا حوارا, والحوار لايتحقق بطرف واحد أو بسلطة مطلقة. ونحن نعرف ان السلطة مفسدة, وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. هكذا أدرك جابر عصفور كما أدركت البشرية كلها من قبل أن احتكار السلطة هو أصل الداء, والدواء إذن هو الديمقراطية أو الاصلاح السياسي الذي يراه في إئتلاف وطني جديد يمنع السلطة القائمة من احتكارها والانفراد بها, ويمنع الجماعات الدينية من الوصول اليها. لأن هذه الجماعات لا تعدنا بالحرية أو بالديمقراطية, وانما تعدنا بطغيان جديد لايتميز عن سواه إلا بأنه طغيان مقدس! ولقد كان جابر عصفور في مقالته هادئا عاقلا, لأن ادراكه لبؤس الواقع الذي نعيشه لم يجعله مهيجا ولا راغبا في الاثارة, وإنما كان بكل بساطة يؤدي واجبه كمثقف. والثقافة الحقة ليست مجرد معرفة, وإلا فهي مجرد حرفة أو صنعة, وإنما الثقافة الحقة معرفة وضمير. معرفة كأنها الوحي أو الرسالة التي لابد أن يصدع بها المثقف الحقيقي, وأن يبلغها ويناضل في سبيلها, وهي بالتالي ضمير عارف, لأن الضمير ليس انصياعا عبوديا لأمر أو نهي, وليس خضوعا لتقليد سائد أو عادة متبعة, وإنما الضمير هو ماتكشفه لنا التجارب ويصدقه العقل وتستجيب له فطرة الانسان الساعي في الخير الباحث عن السعادة لنفسه ولكل البشر. هذا هو المثقف الحق, وتلك هي رسالته التي جسدها لنا أمثال عبدالله النديم, ومحمد عبده, وطه حسين, وعباس محمود العقاد, وسلامة موسي, ولويس عوض, وفؤاد زكريا, ونصر حامد أبوزيد, وغيرهم. هؤلاء جميعا وكانوا كلهم أو معظمهم فقراء لم يقصروا في تحصيل هذه المعرفة وامتلاك هذا الضمير العارف, وبقدر ماتذوقوا لذة المعرفة بقدر ما تحملوا تكاليفها الباهظة, وضحوا في سبيل ما آمنوا به. فإذا كان هناك من آثر السلامة, وتاجر بالثقافة واحترف الكذب, فقد خسر أكثر بكثير مما ربح, لأنه فقد الحطام الذي جمعه, وفقد بعد ذلك حقه في الوجود, علي حين يظل من ذكرتهم حاضرين يزدادون كل يوم حضورا, وقدرة علي الفعل والتأثير. إن السلطة الروحية التي مازال طه حسين يتمتع بها أعظم وأجل من أي سلطة مادية قاهرة. والثروة التي خلفها لأجيالنا من الأفكار والمباديء والمثل العليا والمواقف المشرفة لن تنفد أبد الدهر, أما الذين آذوه واضطهدوه وتكاثروا عليه وأرادوا أن يجوعوه ويشردوه فقد سقطوا من ذاكرتنا وضاعوا إلي الأبد. وطه حسين ينظر إلينا الآن!