في تكرار ممل للسوابق, يغطي الوسطاء الدوليون والإقليميون سماء بيروت حيث يعجز الفرقاء اللبنانيون عن الحوار المباشر لحل أزمة داخلية لملء الفراغ في غياب هذا الحوار. ولمحاولة ردم الفجوة وتقريب المسافات علي نحو ما جري في الطائف عام1989 لإنهاء الحرب الأهلية, وفي الدوحة2008 لإنهاء أزمة شبكة الاتصالات! فالمؤشرات منذ إسقاط حكومة سعد الحريري باستقالة وزراء المعارضة العشرة ووزير من حصة رئيس الجمهورية في الحكومة قبل أسبوع تشير إلي أن الأزمة السياسية اللبنانية ممتدة, وأن المشاورات سواء علي صعيد تسمية المرشح للتكليف بتشكيل الحكومة الجديدة أو الوزراء حسب قاعدة المناصفة والنسبية, التي بدأها الرئيس ميشال سليمان أمس( الاثنين) سوف تطول حتي بعد الاتفاق علي اسم رئيس الحكومة الجديدة. فقوي الأكثرية(14 آذار) تمسكت بسعد الحريري رئيسا للحكومة الجديدة, بوصفه يمثل غالبية الطائفة السنية التي أعطته أصواتها في الانتخابات النيابية الأخيرة(62%), وقوي المعارضة(8 آذار) ترفض حسب دعاواها رئيس حكومة تسببت سياسته ومواقفه في إسقاط حكومته وعدم تكرار التجربة نفسها معه, وتشترط للموافقة علي المرشح( الحريري) موقفا واضحا من المحكمة الدولية لجهة إلغائها, ومن القرار الاتهامي في قضية اغتيال والده رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. وفشلت محاولة شق الصف في قوي الأكثرية بتسريب المعارضة إمكانية القبول بمرشح آخر من الأكثرية مثل القيادي في تيار المستقبل وزير الاقتصاد والتجارة محمد الصفدي, أو رئيس الوزراء الأسبق نائب طرابلس نجيب ميقاتي, فقد أكد كل منهما دعمه للحريري, كما ظهر أن ترشيح المعارضة لاسم رئيس الوزراء الأسبق عمر كرامي( مستقل) لا يحظي بالقبول, لاسيما أنه رئيس الحكومة الذي اغتيل في عهدها الشهيد رفيق الحريري, فلا أحد في14 آذار يجرؤ علي القبول بالترشح في وجود الحريري, ولا أحد سني من خارجها يمكن أن يمر إلي السراي الحكومي من دون مباركتها. وبصرف النظر عن تأكيد كل الأطراف الخارجية أن تشكيل الحكومة شأن لبناني داخلي, إلا أن الاتصالات الدولية والإقليمية والمقترحات التركية بشأن استضافة القيادات اللبنانية( علي غرار الطائف والدوحة), والفرنسية بإنشاء لجنة اتصال لمتابعة الوضع ومساعدة اللبنانيين علي تجاوز الأزمة تؤكد حجم هذا التدخل, بقدر ما أظهرت زيارة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط( رئيس اللقاء الديمقراطي النيابي11 نائبا والحزب الاشتراكي4 نواب والذي يتخذ موقفا وسطيا بين الفريقين) لسوريا قبل أيام, أظهرت بدورها عمق الارتباط اللبناني السوري, وصعوبة تجاهل دمشق, والحرص علي استطلاع رأيها في التطورات الداخلية. لايزال جنبلاط يمثل عصا موسي في الحياة السياسية اللبنانية لحسم الخيارات, لاسيما في هذه الفترة الدقيقة, فالحكومة المقبلة ستدشن بداية مرحلة جديدة في الحياة السياسية اللبنانية, وتكتب نهاية مرحلة ما بعد2005, بما في ذلك فترة الهدوء التي سادت منذ اتفاق الدوحة2008 وحتي انهيار الحكومة, باعتبار أن تلك الفترة كانت امتدادا لسابقتها, وذلك كون المطلوب لتشكيل الحكومة الجديدة إغلاق ملفات تلك المرحلة السابقة, وعلي رأسها ملف المحكمة الدولية من ناحية, أو المضي علي طريق العدالة الدولية من ناحية أخري, وهذا الطريق تؤكد قوي14 آذار أنها لن تحيد عنه, كون الخروج منه يكتب شهادة وفاة ثورة الأرز. بهذا المعني, فإن خروج جنبلاط من موقعه الوسطي لمصلحة قوي المعارضة أو لمصلحة قوي الأكثرية سيحسم بذلك خياراته, لكنه لن يحسم وحده اسم المرشح لرئاسة الحكومة, فاحتمالات التعطيل( إطالة أمد الأزمة) واردة. أما بالنسبة لسوريا, فقد بدأت علي استحياء المناقشات معها من جانب بعض وسائل إعلام قوي14 آذار وقيادتها السياسية, بتوجيه انتقادات لها واتهامها بتحريض المعارضة ضد الحريري, واسترجعت في هذا الصدد مفردات فترة الخلاف السياسي التي وضع الحريري حدا لها في سبتمبر الماضي. تعد المساومة والتنازل والمواءمة والتوافق والتسويات وحتي الابتزاز من خصائص الحياة السياسية اللبنانية ومن ثم يشيع في الأجواء حديث الصفقات التي تتراوح بين قبول المعارضة بسعد الحريري رئيسا للحكومة الجديدة, مقابل إحياء المبادرة السعودية السورية والشروع الفوري في التنفيذ المتوازن لبنودها, وخروج حزب الله من الحكومة لكن برفقة حزبي القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع, والكتائب بزعامة الرئيس الأسبق أمين الجميل, أو استمرار تفاعلات الأزمة. ويبدو استمرار الأزمة السياسية مع حكومة تصريف أعمال برئاسة الحريري لا تستطيع اتخاذ قرارات مصيرية مريحا للمعارضة, كون ذلك يحقق لها عمليا أحد مطالبها خلال الحكومة السابقة بوقف تمويل المحكمة. كما أن إطالة أمد الأزمة واستمرار حكومة تصريف الأعمال مرشحة للامتداد15 شهرا حتي مارس2012 موعد انتهاء ولاية المحكمة الدولية, حيث يحتاج تجديد ولايتها قرارا جديدا من مجلس الأمن, وحينها قد يكون جد في الأمور أمور, ففي أجواء أقل سخونة وتشنجا من الأجواء الحالية استغرقت مشاورات تشكيل الحكومة السابقة سبعة أشهر منذ يونيو2009 وحتي ديسمبر2009. شتاء بيروت القارس وعواصفه الثلجية لم تبرد أجواء العاصمة السياسية الساخنة, فإذا كان هناك ما يمكن استنتاجه من الحياة السياسية اللبنانية, فإن الرهان علي حل وطني لأزمة داخلية مستحيل من دون تدخل خارجي, وان إجراء الفرقاء السياسيين في نظام سياسي طائفي مراجعة سياسية صعب من دون الحصول علي مكاسب وامتيازات مقدما. يقول السياسي اللبناني خالد حدادة: إن هدف أي نظام حكم في العالم هو تحقيق التنمية المستديمة, أما نظام الحكم في لبنان, فهو مصمم لتحقيق الفتنة المستديمة!