تاتي نهاية العام ليحتفل الناس, ككل عام, برحيل عام وقدوم عام جديد, يتمنون فيه حياة افضل ويتبادلون التهاني بالعام الجديد. واذا تصفحت الجرائد في هذه الايام الاخيرة فإنك لا تملك الا التعبير عما يسود العالم من تناقض, افراح هنا, واحزان هناك وفرة في مكان, وندرة في مكان آخر. وهو امر ليس بجديد علي اي الاحوال. وجاءت نهاية هذا العام, وحيث يحتفل المسيحيون بالعيد المجيد في مشرقنا العربي وسط اجواء حزينة. والمسيحيون في العراق, هم من اقدم الفرق المسيحية في العالم, وتحمل كنيستهم تراثا عريقا من الاصالة والفكر, وقد تزعمت في وقت من الاوقات حيوية الفكر المسيحي وكان لها فضل انتشار هذا الدين في معظم آسيا. ويأتي هذا العيد وسط آلام عميقة لما تعرضت له هذه الكنيسة من اعتداءات اثيمة. وبدلا من الاحتفال بالاعياد, فإنهم يفرون من بيوتهم بحثا عن مكان آمن, ربما الي حين, حتي تتوافر لهم فرصة للهجرة الي بلاد الشمال. وهو نذير شؤم باختفاء هذا التراث الشرقي العظيم. وهو عار واي عار, علي الامة الاسلامية والعربية, التي عرفت طوال تاريخها التنوع في المذاهب والملل, عندما نري ان واحدة من اقدم العقائد المسيحية في العالم تتعرض للتصفية. وليست اوضاع مسيحيي القدس بافضل حالا, فهم يرزحون تحت ربقة احتلال مقيت مما جعل احتفالهم بالعيد اشبه بالمأتم منه الي الاحتفالات. وفي نفس الوقت نسمع عن اخبار اقتتال بين المسلمين والمسيحيين في نيجيريا. اما آن الاوان ليرتفع صوت عاقل وبقوة لوقف هذا التخريب باسم الاديان السماوية! وفي جلسة خاصة حديثة ضمت بعض المسئولين من اليمن, تطرق الحديث الي الاقليات الدينية في الدول العربية, ومن بينهم يهود اليمن, ومن المعروف ان اليمن بالاضافة الي المغرب والعراق كان احد اهم معاقل اليهود الشرقيين وذكر لنا احد المسئولين من اليمنيين الحاضرين رواية لواقعة تمت بين عدد من المسلمين واليهود اليمنيين, حين سأل بعض الحضور اخوانهم من اليهود, متسائلا هل تنوون حقا الهجرة؟ فرد احدهم, وهو من شيوخ اليهود قائلا, كيف يا اخي تتحدث هكذا؟ نحن اصل اليمن ونحن اقدم اليمنيين, وقد ظللنا علي ديننا القديم من اليهودية ولم نتغير مع مجيء الديانات الجديدة من مسيحية واسلام. فكيف تتساءل عن هجرتنا من بلد نحن اقدم فيه منكم!. ومع ذلك دارت الايام وهاجر معظم يهود اليمن الي اسرائيل. وتذكرت ساعتها ما يدور في مصر من حديث عن الاقلية القبطية وشعرت بغير القليل من الخجل. فالاقباط ليسوا أقلية كما ان المسلمين ليسوا اغلبية, بل هم جميعا مصريون, وكل منا يختلف في اللون والطول والملامح كما في طريقة عبادة الرب, ولا يجعل ذلك من ايهم اقليةاو اغلبية فهل نتحدث في بلادنا عن اقلية الشقراوات او اغلبية السمراوات؟ كل واحد منا هو اقلية بشكل ما, فلا يوجد تطابق تام وكامل بين اي فردين حتي بين التوائم. وينبغي ان نتذكر ان معظم المصريين المسلمين المعاصرين ينحدرون من اصول قبطية اسلمت في وقت او آخر. وقد ظلت غالبية المصريين من الاقباط حتي القرن العاشر او الحادي عشر الميلادي, وذلك بعد ثلاثة او اربعة قرون علي الفتح العربي, وزادت اعداد المسلمين تدريجيا باعتناق العديد من الاقباط الديانة الجديدة لاسباب عقائدية او انتهازية لايهم. واغلب المسلمين والاقباط الحاليين لم يختاروا هذا الدين او ذاك, وانما ولدوا في عائلات مسلمة او مسيحية, دون ان يكون لهم اختيار كبير في هذا الامر. فليس لمعظم المصريين من المسلمين او الاقباط الحاليين من فضل او ذنب في اعتناقهم لأديانهم, وانم هم ولدوا هكذا. وتظل هذه بلدنا جميعا لنا فيها نفس الحقوق وعلينا نفس الواجبات. وانا شخصيا ولدت في عائلة مسلمة, بل انني فيما تعتقد العائلة انتمي الي نسل سلالة الرسول عليه السلام. وقد كانت نقابة الاشراف في عائلة الببلاوي حتي قيام الثورة, حيث استمرت في نفس العائلة لنحو سبعة عقود سابقة. ولا اخفي انني اشعر باعتزاز لهذا النسب الكريم. ولكني اعتقد بان شعوري ما كان سيتغير كثيرا فيما لو ولدت لعائلة مسيحية, حيث كنت في اغلب الظن ساشعر بنفس الاعتزاز في الانتساب لعائلتي الحياة الخصوصية لكل فرد هي حق له وحده, ولا يجوز لاحد ان يتدخل فيها مادام لا يترتب علي ممارسته هذه الخصوصية ايذاء للاخرين ماديا او معنويا فلكل فرد ان يعبد ربه علي النحو الذي يشاء, وله ان يختار ذوقه في الطعام او الملبس علي ما يحب او علي ما نشأ عليه, كما ان له ان يعتنق ما يراه من افكار دينية او سياسية او فلسفية دون قيد لا إكراه في الدين فهذه كلها امور خاصة وشخصية, ليس لاحد التدخل فيها طالما لم يترتب عليها اضرار بالغير. ولكن نهاية هذا العام لم تقتصر علي العواصف التي تهدد المسيحيين في الشرق, بل شهدت ايضا عواصف جليدية مختلفة في اوروبا وشمال امريكا لتعطل الحياة وتوقف الرحلات الجوية حيث علق آلاف المسافرين في المطارات, وخابت أمالهم في قضاء إجازة نهاية العام علي شواطئ البحار الدافئة او في محطات التزحلق علي الجليد. وبالمقابل عرفت منطقة الخليج وبلاد الشام في سوريا والاردن وكذا اليمن, موسما شديد الجفاف, ذلك في الوقت الذي تغرق فيه بلدان الشرق الاقصي في الهند وباكستان في بحار من الفيضانات والامطار, حيث يهرب الالوف من منازلهم بحثا عن مأوي يقيهم شرور غزارة المياه. ويظهر التناقض في منتهاه بين هؤلاء الذين يهربون من وفرة المياه من ناحية, واولئك الذين يعانون نقص المياه ويقيمون صلوات الاستسقاء بالدعاء لنزول المطر ولو بكميات قليلة من ناحية اخري. وفي هذا الجو الغامر من التناقض بين جماعات تغرق في المياه واخري تموت من العطش, تقرأ في الصحف اخبارا لا تخلو من الطرافة. ففي نفس الجريدة تقرأ في احدي الصفحات خبرا وصورا لرجالات الدولة وعلماء الدين في صلوات للاستسقاء ولكنك تقرأ خبرا اخر في صفحة اخري من نفس الجريدة بان مراكز الارصاد الجوية تتنبأ بنزول الامطار خلال الايام القليلة المقبلة. ويتساءل المرء هل هناك علاقة سببية بين هذين الخبرين المنشورين في نفس الجريدة وفي نفس اليوم؟ فهل ترجع تنبؤات الارصاد الجوية بنزول المطر الي اقامة صلوات الاستسقاء, ام ان الصحيح هو ان اقامة هذه الصلوات انما جاء بسبب المعرفة بتنبؤات مراكز الارصاد الجوية؟ والاكثر طرافة هو ان صلوات الاستسقاء في دول الخليج, والتي تضم اعدادا هائلة من الباكستانيين والهنود المسلمين, لم تؤد حتي الآن الي نزول الامطار في معظم هذه الدول فالباكستانيون والهنود المسلمون يصلون في الخليج صلاة الاستسقاء, وتنزل الامطار, بغزارة غير معهودة, ولكن في بلادهم الاصلية في الهند وفي باكستان! وعندما نزلت الامطار في غرب الخليج فقد جرفت السيول المنازل والشوارع في جدة, وبعض مدن الصعيد موقعة بعض الحوادث والاصابات. كذلك جاء مع نهاية هذا العام نشر وثائق ويكيلكس وكشف المستور عن فضائح السياسة والسياسيين, لاضافة عنصر جديد للاثارة دون ان تغير الكثير من نظرة العامة لاحوال الحكم في مختلف البلدان. فالسياسة هي دائما السياسة, والكذب والخداع لها في هذا المجال اسماء براقة, فهي دبلوماسية حينا, او هي حماية الامن القومي والمصالح العليا احيانا اخري. وفي مصر, وقد صادف نهاية العام اجراء الانتخابات التشريعية وتكوين البرلمان الجديد, مما فتح الباب لمزيد من النقاش والجدل. واحتفل الحزب الوطني بانتصاره الكاسح, وأرجع ذلك الي ما حققه من انجازات هائلة علي ارض الواقع, فضلا عن التنظيم الدقيق لادارة العملية الانتخابية وفقا لآخر نظريات علوم الادارة والسياسة. ولكنك تقرأ علي الجانب الآخر من قوي المعارضة آراء مناقضة تماما مؤكدة سقوط الديمقراطية وانتصار التزوير واعمال البلطجة, ومن ثم اقيمت المآتم لتلقي العزاء في الفقيد العزيز. ومع كل هذه التناقضات, فلا شيء جديد يميز هذا العام عن سابقيه, وغالبا ايضا عن الاعوام القادمة. فالحياة تستمر بايقاعها المتنوع بين انتصارات هنا وهزائم هناك.. وتظل الحقيقة الوحيدة هي ان كل من عليها فان, ويبقي وجه ربك ذو الجلال والاكرامولا نملك الا أن نتمني للجميع عاما سعيدا, آملين ان يكون افضل من سابقيه دون ان نتوقع الكثير. وكل عام وانتم بخير, والله اعلم. بعد الانتهاء من اعداد هذا المقال وقبل ارساله الي جريدة الاهرام, وقعت حادثة كنيسة الاسكندرية فأي دين يسمح بذلك! ولاحول ولاقوة الا بالله. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي