في سلسلة الإبداع الشعري المعاصر, الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب صدرت هذه المجموعة الشعرية للشاعر العنتيل, اختارها وقدم لها الدكتور مدحت الجيار. وفوزي العنتيل(4291 1891) واحد من أبرز شعراء الخمسينيات, التمع اسمه أولا من خلال رابطة النهر الخالد التي كانت تضم معه محمد الفيتوري وكمال نشأت, ثم من خلال دوره في تجديد دماء القصيدة الشعرية الجديدة بدءا بديوانه الأول عبير الأرض فديوانه الثاني رحلة في أعماق الكلمات وقصائد أخري متناثرة ولم تجمع بعد. من السهل أن ينسب شعر العنتيل في مرحلته الأولي الي متابعته لخطي الرومانسيين المصريين والعرب كما أوضح الدكتور الجيار في مقدمته الضافية للمختارات والتوقف عند المنجز الشعري لشعراء جماعة الديوان وشعراء جماعة أبولو وشعراء المهجر الامريكي, ثم مالبث أن لحق بطلائع حركة الشعر الحر, وأصبح من روادها الأول في مصر, وتجلي هذا التحول في ديوانه الثاني بصورة لافتة وتفصح سيرة حياته عن بعض مكوناته الأولي منذ ميلاده في الثالث من نوفمبر4291 في قرية علوان التابعة لمحافظة أسيوط, حيث بدأت مسيرته مع التعليم الازهري, ثم التحاقه بكلية دار العلوم وتخرجه فيها عام1591 وحصوله علي دبلوم التربية وعلم النفس عام2591 تمهيدا للعمل في تدريس اللغة العربية قبل أن يتاح له الانتقال الي المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاحتماعية سكرتيرا للجنة الشعر التي كان يرأسها العقاد فسكرتيرا للجنة الفنون الشعبية, حتي اختير عضوا في لجنة الشعر ولجنتي الدراسات الأدبية والفنون الشعبية. وفي هذه الفترة كانت بواكير شعره الأولي تهئ له مكانه ومكانته في ديوان الشعر المصري المعاصر وتلفت إليه أنظار الشعراء والنقاد معا. ثم يسافر العنتيل الي إيرلندا في بعثة لدراسة الفولكلور علي مدي ثلاثة أعوام(0691 2691) قبل أن يتاح له العمل أستاذا مساعدا بقسم الدراسات العربية في إحدي جامعات نيجيريا, ثم أستاذا زائرابقسم الدراسات العربية في جامعة بودابست بالمجر, وأخيرا مديرا عاما لمركز تحقيق التراث بالهيئة المصرية العامة للكتاب. ويبدو أن الفجوة الزمنية التي امتدت بين عامي9591 و9691( قرابة عشر سنوات) وانشغل فيها الشاعر بأشياء أخري بعيدة عن الشعر, هي المسئولة عن غياب صوته الشعري بعد توهجه في السنوات الأربع التي شهدت تدفق قصائد ديوانه الأول عبير الارض(1591 5591), وتمثلت انشغالاته الاخري في ترجمة مختارات لشعراء المجر الكلاسكيين بعنوان الحرية والحب صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام8691 وترجمة قصائد مختاره للشاعر المجري شاندرو بيتوفي صدرت عن دار روزاليوسف, كما ترجم مسرحية المحراث والنجوم لشون أوكيسي نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب, كما صدرت له في هذه الفترة دراسات: الفولكلور ما هو؟ عن دار المعارف(5691), والتربية عند العرب( سلسلة المكتبة الثقافية6691) وبين الثقافة الشعبية والفولكلور( عن الهيئة المصرية العامة للكتاب) ويقول الدكتور الجيار إن الشاعر أنجز تحقيقا لكتابين هما مقامات الحريري للإمام محمد عبده, ورحلة ابن فضلان إلي بلاد الخزر(لم ينشرا حتي الآن) كما أتم كتابا عن عالم الحكايات الشعبيةلم يطبع أيضا. هل كان انشغاله بالكتابة عن الفولكلور والترجمة والتحقيق يخفي عزوفه عن الابداع الشعري؟ في وقت بدأت فيه الذائقة الشعرية تتشكل بصورة مغايرة, وأصبح وجدان فوزي العنتيل المزدحم بأحزان القرية منذ طفولته الأولي, والمصاب بهموم الاغتراب والاضطراب نتيجة لسفره في بعثته خارج الوطن, والمسكون بها حس الموت في سنواته الاخيرة, يجد ملاذه في كتابات من نوع آخر, تبعده عن البوح والتفجر ومواجهة الواقع المصري الذي أصبح بالنسبة إليه غولا مخيفا في كل شيء إن صدور هذه المختارات الان لفوزي العنتيل, ومعها هذه المقدمة الشارحة والمفسرة لرحلة الشاعر مع الكلمات بقلم د. مدحت الجيار, يزيل عنه بعض مالحق به من تجاهل ونسيان منذ رحيله, ويضع أمام قراء الشعر في هذا الجيل خلاصة رحلة شعرية بالغة الجمال والعذوبة بالرغم مما تحمله من لوعة وأسي وانكسار, وإحساس عميق بالهزيمة والانسحاب تمثلها هذه البكائيات: في عصر الهمجية تقطع رأس الشاعر تمسخ صورته البشرية يصبح تمثالا من حجر مصقول فوق سجون الحرية أو يصبح رمسا في مقبرة حجرية تسفعها الريح الرملية يرتجف شعاع القمر الشاحب حين يمر باحجاره ويعود الشاعر ذكري, تتأوه في كلمات قصيدة كانت ذابلة مصدورة ملحمة بين سطور كتاب منطمس الصفحات تحكي عن جثة بحر منكفئ في أعماق الفلوات فاصرخ يا قلبي, وتفجر في أشواق دموعك أوقد نيرانك تحت جليد الحزن رفرف في تنور العاصفة النارية لاتذبل في بستان الغربة إن الفجر سيولد من أحشاء الظلمات فانفض أحزانك وتوهج فالليل وشيك أن يمضي لابد, وأن يمضي! لكن حلم الشاعر بانقضاء الليل لم يتحقق وإحساسه بغربة الوجه واليد واللسان التي عاناها وهو في سراييفو لم يفارقه حتي بعد عودته إلي الوطن, فكان اغترابه الشديد عن الناس والحياة بابا إلي الرحيل.