جاء ميلاد المسيح وزامنه تناقض واضح وفاضح, فعلي الجانب الاحتفالي رأينا احتفال السماء قبل الأرض, إذ ظهر جمهور من الجند السماوي بألحان عذبة وكلمات تفوق قدرات العقل البشري: المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام, وبالناس المسرة. إنها كلمات قليلة مصوغة ربانية تعطي كل المجد لله علا وجل شأنه وتبشر بأمنية هي حاجة الأرض وكل ساكنيها أن يعم السلام وتتوقف آلات الحروب وأدوات الانتقام, وعندئذ يحل السرور والبهجة والفرح الذي هو حلم البشرية ومسعي عقلاء الأرض وحكماء القادة. إنها الأغنية التي تسعد الأطفال وتمتع الكبار نساء ورجالا إلا أعداء السلام وصناع أسلحة الدمار وأبناء الشيطان الرجيم الذي هو عدو كل استقرار وأمان. صورتان متناقضتان.. الملائكة تسبح لله حمدا.. وبسطاء الأرض يفرحون وحكماء زمانهم بالهدايا يحملون ومسافات طويلة يقطعون وبرؤية الطفل المولود يبتهجون, وعلي النقيض في قصر الملك هرج ومرج وجنود يحملون سيوفهم لحرب غير مبررة وقتل أطفال رضع أعمارهم لا تتجاوز العامين ولدوا في بيوت متواضعة لآباء كادحين لا يملكون أسلحة تحمي أنفسهم وأولادهم, ولا يوجد من يقول للملك الذي لا يخاف الله ولا يهاب إنسانا, همه أن يحمي عرشه حتي لو كان من أبنائه, فقد عرف هيرودس الملك بدمويته, وسيفه الذي لم ينج منه أقرب الناس إليه سواء كان ابنا أو زوجة. والأمر الغريب هو أن أخبار الميلاد التي وصلت إلي بلد بعيد كالعراق من خلال نجم متميز نوره وهاج قاد جماعة لمسافة طويلة ليهديهم إلي حيث المولود وكان بالأولي أن يبصره هيرودس الملك ورجال بلاطه ومستشاروه وعلماء مملكته والجواب البسيط أن كل هؤلاء لم يكن لديهم الاستعداد والتطلع إلي مثل هذه الأخبار. إن إعلانات الله يعرفها الأطفال والرضع والبسطاء والحكماء بحكمة الله, وليست بالحكمة الشيطانية والنفسانية والشخصانية المملوءة أنانية وأطماعا وحسدا وازدراء للآخرين. والمقارنة الأخري بين المرحبين بالمولود المجيد والرافضين الحاقدين ظهرت في الاستعداد للانتقال إلي حيث يوجد المسيح, فحكماء الشرق قاموا وسافروا وتحملوا مشقة الطريق وأخطاره, وكذلك الرعاة البسطاء تركوا أغنامهم وانطلقوا إلي حيث ولد المسيح.. أما هيرودس الملك فلم تسمح كبرياؤه أن يطلب رؤية المسيح بل علي العكس مارس الدهاء السياسي والكذب الإبليسي والمراوغة الثعلبية, إذ طلب من زائريه أن يذهبوا هم أولا ويعودوا إليه ليخبروه أين يوجد الملك الوليد ليذهب هو ويسجد له. لقد استخدم المكر والدهاء حتي يتخلص من الطفل في مهده دون أن يدري بذلك الفعل أحد.. لقد فات الملك أن المسيح قد ولد لرسالة سماوية ولا تقدر الدنيا أن تقاوم خطة الله.. ومن يحاول فعل ذلك فإنه واهم, بل سيواجه غضب الله وانتقامه إذ قال لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. والصورة الأخري.. هي صورة أصحاب القلوب القاسية, فقد استدعي هيرودس الملك كبير الكهنة وعلماء اللاهوت ليخبروه عن أصل الرواية, فكان جوابهم.. نعم.. تقول نبوات الأنبياء إن المخلص والمنقذ سوف يولد في بيت لحم, لكن لا الملك فكر في لقاء هذا الطفل المليك الذي تحدث عنه الأنبياء ولا رجال الدين في عصره فكروا في الانتقال ربما علي بعد أمتار من قصر الملك, ومن هيكل الكهنة, ولكن الجميع افتقروا للإيمان الفاعل والمحرك واكتفوا باقتسام السلطة بين مؤسستين.. الأولي المؤسسة السياسية متمثلة في القصر والحكام. والثانية في الهيكل متمثلة في الكهنة ورؤساء الكهنة تاه الشعب وتاهت الحقيقة وزاد الظلم والجور وانتشر المرض وزادت معدلات الفقر والجوع, وسكتت الأفواه وخرست الألسن أمام سياط التعذيب لتحصيل الضرائب أو الموت. نعم.. لقد دفع أطفال رضع ثمن الظلم والوحشية.. فمات أطفال ليحيا من مات من أجل الجميع.. ومات هيرودس بعد موت الأطفال بأقل من ثلاث سنوات, ولكن التاريخ لا يرحم, فقد سجل ارتكاب هيرودس جريمة قتل الأطفال وبكاء أمهاتهم دون تعزية. ليت الساسة والحكام وكل من هم في مركز يراعون الله في أحكامهم وأفعالهم ليصونوا الأطفال ويحموا الضعفاء والمسنين والمرضي والفقراء حتي يترأف الله ويرحم عباده وخليقته التي أراد لها الحياة الكريمة.