يبدو أن تفكك الدولة السودانية بعد انفصال الجنوب واستقلاله يحمل في أعطافه عديدا من المشكلات في علاقات كلتا الدولتين, وفي تعامل كلتا الصفوتين السياسية/ العسكرية مع القضايا العالقة فيما بينهما حول تقسيم الحدود, وترسيم منطقة أبيي الغنية بالنفط, ومسألة الجنسية حيث2 مليون جنوبي يعيشون في الشمال, و500 ألف شمالي في الجنوب, وتقاسم المياه والمشروعات المستقبلية حولها قناة جونجلي سواها من المشاريع التي ستحقق فائضا يتمثل في18 مليار متر مكعب. من هنا تبدو احتمالات صراعية محملة بالعنف, وتداخل كلا الطرفين وتأثيرهما علي الاستقرار السياسي والاجتماعي وتطور الأوضاع الأمنية داخل الدولة الأخري, ومنها احتمالات مساعدة الحكومة االإنقاذيةب الشمالية وتغذيتها للصراعات القبلية في الجنوب بين الدنكا(40% من السكان) والنوير(2%), والاراندي(10%) والتوبوسا(8%) والشيلوك(5%).. إلخ, أو بعض العناصر المنشقة علي حركة تحرير السودان داخل الدنكا. ومحاولة الحركة الشعبية التدخل في مناطق النزاع مع قبائل الوسط النيلي الثلاث الكبري الحاكمة للسودان منذ الاستقلال, من خلال تشجيع حركات التمرد القبلي الدرافورية, وربما يمتد هذا الدور بعدئذ إلي قبائل البجا في الشمال, ناهيك عن إمكانيات تدخل دول الجوار الأخري في هذا النمط من النزاعات الأهلية سواء بالسلاح أو التدريب أو الملاذات الآمنة, سواء في الشرق أو في الغرب. بما يشكل عبئا ضاغطا علي الاستقرار للشمال والجنوب معا. كلتا الدولتين السودانيتين في الشمال والجنوب تواجهان عديد التحديات الداخلية والإقليمية بما سيؤثر علي استقرارهما, ومنها: مشكلات شكل الدولة والنظام السياسي السوداني الشمالي ومدي استمرارية نموذج الدولية الشمولية- التسلطية, وتطبيق القانون الديني في واقع عرقي وثقافي وديني ومناطقي يتسم بالتعدد والتركيب, وتفاقم مشكلات وأزمات ممتدة تتصل بالتنمية ومدي قدرة نخبة الوسط النيلي الإسلامية- العرقية- القبلية في القبول بالتعددية في جميع أشكالها, ومن ثم تطوير الدولة والنظام السياسي ومؤسسات الحكم علي نحو ديمقراطي يسمح بمشاركة جميع القبائل والمناطق والعرقيات والأديان في إطار مؤسسي يؤدي إلي تمثيل مصالحها السياسية والاجتماعية والثقافية والتعبير الحر والديمقراطي عنها, سواء في المؤسسات االقوميةب أو في الحكم الولائي- الولاياتي- في الولايات المختلفة للشمال. ويبدو من جميع المؤشرات أن المرجح هو استمرارية الدولة الدينية الفاشلة التي سيذكر لها, وللصفوة الحاكمة الشمالية, أن إنجازهم الكبير والسلبي الذي نهضوا به يتمثل في تفكيك الدولة إلي دولتين, وفي تأجيج الصراع بين الإسلام العربي- العرقي, وبين الإسلام الافريقي الذي تمثله القبائل الدارفورية التي شكلت تاريخيا أحد الجسور المهمة بين الإسلام الإفريقي والإسلام العربي. هذا الصدع بين النمط الثقافي والحياتي الإسلامي الإفريقي, والعربي وجد صداه في الإساءة إلي صورة الإسلام في إفريقيا والعالم علي أيدي الصفوة الحاكمة في السودان, فضلا عن عجز هذه الرؤية الأصولية العرقية/ القبلية السنية عن بناء الدولة والأمة, بل وانهيار ميراث الجمهورية السودانية بعد الاستقلال لاسيما في آلق لحظاته المدنية الديمقراطية. إن أخطر ما في قضايا الانفصال يتمثل في انكشاف مسألة الشرعية السياسية للصفوة االإنقاذيةب الحاكمة, وفشل مشروعها السياسي/ الديني/ القمعي علي نحو ما تشير إليه التقارير الدولية ذات الثقل. جميع المؤشرات السياسية والاجتماعية والدينية تشير إلي فشل في تقديم نموذج متسامح وعدالي للإسلام كدين للحرية والعدالة والتسامح والمساواة, وذلك بسبب شيوع نمط احتكاري للتأويل الديني المتشدد والتقليدي تمثل في احتكار الصفوة الحاكمة ومشايخها الإيديولوجيين النطق باسم الإسلام السني, وتأويلاته وتطبيقاته السياسية والقانونية التي شكلت انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان والمواطن السوداني, وقمع الأحزاب السياسية الشمالية التقليدية وغيرها, علي نحو قد يدفع إلي المزيد من مصادر عدم الاستقرار السياسي, خاصة في ظل تعديل الدستور وتطبيق الشريعة علي النمط الذي ساد في أواخر عهد نميري, وفي ظل نظام وحكومات الإنقاذ في مرحلتيه الأولي والثانية, وهو ميراث ظل موضوعا للإدانات الدولية والداخلية. ثمة احتمالات أخري واردة لاشتعال الموقف في إقليم دارفور سواء من خلال التداخل الإقليمي والقبلي في الدول المجاورة ومكوناتها في النزاع الدارفوري مع النظام, ناهيك عن احتمالية تدخل دولة جنوب السودان مع الفصائل المسلحة الدارفورية, والأخطر لجوء بعض الفصائل إلي التعاون مع إسرائيل التي وجدت منفذا للتعاون مع الحركة الشعبية في الجنوب, ناهيك عن احتمالية أخري لتدخل وتأثير إسرائيلي علي بعض الفصائل المسلحة في دارفور. من هنا لن تصلح الأساليب الدعائية والإيديولوجية الزاعقة لحكومة شمال السودان في كيل الاتهامات للحركات الدارفورية بالتعاون مع إسرائيل ولا المناورات الحكومية المستمرة في العملية التفاوضية والتعنت في حل الملف الدارفوري. إن المسألة السودانية رجل إفريقيا المريض بلا نزاع تشير إلي عجز تكويني وتاريخي للصفوة الشمالية وعدم قدرتها علي المبادرة والخيال السياسي, وذلك منذ الاستقلال, وإعادة إنتاجها لأزمات بناء الدولة والأمة, وارتكازها علي محاور التأييد والمساندة القبلية والعرقية- الدينية- السياسية في المناورات والالتفاف علي التحديات والمشكلات الهيكلية للنظام السياسي السوداني في تطوراته التاريخية في ظل الثنائية التقليدية الحكم المدني- الانقلاب العسكري. كلتا الصفوتين المدنية والعسكرية استنفدتا تاريخيا خياراتهما, ومن ثم يبدو أن ثمة حاجة عميقة وتاريخية وسياسية ومجتمعية لصفوة جديدة قادرة علي صياغة مشروع جديد لدولة الشمال يعتمد علي توليد موحدات قومية فوق عرقية ومناطقية ودينية ترتكز علي مقرطة الدستور والنظام السياسي ومؤسسات الدولة وأجهزة الخدمة المدنية, ونمط من اللامركزية يسمح بوضع المناطق المهمشة تاريخية في إقليم دارفور, وشرق السودان في قلب مؤسسات الدولة والنظام بما يسمح برفع الغبن التاريخي الذي لحق بالدارفوريين بما فيها اعتماد نظام للتمييز الإيجابي لمرحلة تاريخية لهذه المنطقة, بالإضافة إلي تنمية هذه المناطق وحصولهما علي جزء من حقوقهما التاريخية. ان تركيبة وجمود الصفوة الشمالية في الوسط النيلي في الحكم والمعارضة تشير إلي استمرارية سلوكها النمطي إزاء الأزمات, ومحاولة الهروب منها أو القفز فوقها لا التصدي لها عند الجذور. من هنا المرجح من آسف استمرارية النزاعات الأهلية/ القبلية تحت غطاءات دينية وإيديولوجية إسلامية علي النمط الإنقاذي علي نحو ما صرح به بعض قادة النظام مرارا وتكرارا, بل ومورست عديد الانتهاكات إزاء المرأة السودانية بتعللات شتي! لا شك أن الحكم التسلطي الديني والدولة الدينية علي النمط الإنقاذي سيشكل عقبة كأداء إزاء إيجاد حلول للمناطق الهامشية وحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعرقية, ولن تجدي مشروعات الحلول المطروحة علي المدي المتوسط والبعيد حتي في ظل احتمال القبول بها من بعض الفصائل الدارفورية. من ناحية أخري يبدو أن معدلات القمع ستتزايد في الوسط النيلي, ولن تجدي استراتيجية شد العصب القبلي- الديني/ العرقي التي استخدمت كثيرا من قادة الإنقاذ, وذلك بعد وقوع الانفصال أو في مواجهة أبناء وجماعات وقبائل منطقتي الشرق أو الغرب, ولن تستمر نجاعة وظيفتها الدينية الإيديولوجية التعبوية إلا لبعضهم داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم. ستؤدي هذه الأوضاع المضطربة إلي اندلاع أشكال من العنف الأهلي في الشمال, وكذلك في الدولة الجنوبية, بما يشكل تهديدا للأمن القومي لمصر, ويطرح سيناريو التفكيك والانفصال إمكانية لمطالب جماعات عرقية وثقافية في المنطقة أو في بعض دول الجوار الإفريقي بالحصول علي حق تقرير المصير. من ناحية أخري سيؤدي اندلاع حرب بين الدولتين الشمالية والجنوبية, أو نزاعات أهلية مسلحة داخل الشمال أو الجنوب إلي دفع مئات الآلاف بل وملايين في بعض التقديرات من السكان في الشمال من أبناء الشمال أو الجنوبيين في الشمال إلي الهجرة إلي مصر. من ناحية أخري قد تلجأ صفوة حزب المؤتمر في مواجهة الضغوط الداخلية والدولية والإقليمية إلي المزيد من التشدد الديني الإيديولوجي علي نحو يجعلها ملاذا آمنا للإسلام السياسي الراديكالي كالقاعدة وسواها من الجماعات السلفية الجهادية, علي نحو ما حدث في اليمن والصومال. ما العمل في إطار محاولة درء الأخطاء عن دول شمال السودان, ومصر وليبيا في إطار تصور جديد ومداخل للعلاقات بين الشعبين والدولتين, وكذلك لدور مصري جديد في السودان وحوض النيل وإفريقيا يعتمد علي مداخل غير تقليدية تستفيد فيها مصر من قوتها الناعمة التي غرب نجمها؟ هذا ما سنطرحه في المقال المقبل.