يوم السبت21 نوفمبر الماضي نشرت في هذا المكان مقالا تحت عنوان لم تكن مباراة في كرة القدم علقت فيه علي مباراتي مصر والجزائر, في القاهرة والخرطوم, في التصفيات النهائية علي طريق الوصول إلي نهائيات كأس العالم في جنوب أفريقيا. أيامها كانت القاهرةوالجزائر تعيشان فترة ما بعد الأزمة, وكما هي العادة مع الأزمات كانت هناك شراهة كبري في محاولة فهم ما جري, حيث بدا الأمر ساعتها فرصة للحديث عن كل شيء من أول أزمة القومية العربية حتي التوريث الذي بات واحدا من مستلزمات كل حديث في السياسة; أما كرة القدم التي جرت عليها المنافسة فقد تخلي عنها المتخصصون بعد أن هاجروا إلي الساحة السياسية الرحبة. وبالنسبة لي بدا كل ذلك مدهشا للغاية, فعندما بلغ بي التهور يوما من شهر يناير عام1990 لكتابة مقال بعنوان لماذا لا نفوز بكأس العالم؟ انتهزت فيها فرصة وصول فريقنا القومي إلي نهائيات كأس العالم في إيطاليا لتحليل قضايا سياسية واجتماعية, وجدت جماعة من المحللين الرياضيين ذلك نوعا من الدخول إلي قدس الأقداس الذي لا يقترب منه إلا من تم تعميده بين المتخصصين وأصحاب الحرفة. لاحظ أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك فضائيات تليفزيونية ولا استوديوهات تحليلية, ولا ساعات ممتدة لشرح ضربات الرأس وألعاب الكعب. ولكن مع القرن الحادي والعشرين تغيرت الدنيا كثيرا, وبدت السياسة ساحة من المنافسة لا تقل إثارة عن المستطيل الأخضر, بل إنها بالتأكيد أكثر اتساعا. هذه المرة لا يبدو الأمر مختلفا كثيرا عما كان عليه الحال في نوفمبر الماضي, فلم تكن مباراة مصر والجزائر في الدور قبل النهائي لكأس الأمم الأفريقية استثناء من القاعدة التي باتت مستقرة, حيث فقدت المباراة خصائصها الكروية وبقي منها مظاهرها الاجتماعية والسياسية. وببساطة فإن المحلل السياسي والاجتماعي سوف يجد في المباراة ما يجده المحلل الطبي في شريحة رقيقة عليها عينة من نخاع العظم أو نقطة من دم الحالة المعنية; أو ما يجده عالم الاجتماع في استطلاع للرأي تحول فيه المجتمع إلي مجموعة من الشرائح العمرية والطبقية والوظيفية والجغرافية. وربما يصر الطبيب أو الخبير الاجتماعي أو الاقتصادي علي أن شريحة واحدة لا تكفي, أو أن نوعا واحدا من التحليل لا يرضي, ولكن كلا منهم سوف يعتبر ما لديه من معلومات ثروة لا تقدر بمال للتعرف علي الحالة ومحاولة فهم ما يوجد فيها من أحوال وأطوار. ما جري في إستاد بنجيلا ليس موضوعنا من الناحية الفنية, ويكفينا أن نعرف أن مصر فازت بأربعة أهداف للاشيء, وذلك ما يكفي المواطن العادي وأعطاه فرحة طاغية, أما المتخصصون فسوف يكون لهم رأي في تشكيل الفرق وطرق اللعب ومهارة التغيير لدي المدربين. ولكن الباحث الاجتماعي سوف يجد أمورا أخري تحت الميكروسكوب لا يمكنه تجاهلها. وأول الأشياء التي سيلاحظها الباحث هو ذلك الكلام الذي يبدأ بتعبير, كثيرا ما يستخدم ولكن نادرا ما يتم فحصه, وهو الحديث عن هذا الجيل من اللاعبين, حيث تبدو المسألة واقعة في إطار صدفة سمحت بظهور جيل عبقري أو له- كما يقال في لغة المعلقين- حكاية خاصة ونادرة لا تتكرر كثيرا. مثل ذلك لا يعرفه علماء الاجتماع حتي ولو كانوا يعرفون معني' الندرة' في المجتمع والاقتصاد, فما لدينا هو شريحة مجتمعية تفاصيلها ليست كلها معروفة من حيث التعليم والطبقة الاجتماعية والموطن الجغرافي, ولكننا نعرف حقيقة مهمة تسقط من بين محللي الكرة وهي أن المدرب حسن شحاتة يأمر اللاعبين أحيانا بإغلاق كل أجهزة الكومبيوتر, وأحيانا أخري يأمر بسحبها كلية من اللاعبين حتي يضمن التركيز الكامل في المباراة, أو ينال اللاعبون ساعات كافية من النوم. المعلومة بسيطة هكذا, ولكن دلالتها أن جماعتنا تقع ضمن تلك الطائفة من المصريين البالغ عددهم17 مليون نسمة أو أكثر يجيدون استخدام الكمبيوتر ولهم مهارات خاصة في استخدامه تكفي لكي تأخذ أذهانهم بعيدا. وإذا عرفنا أنهم جميعا- علي الأقل حاليا- من الحضر حيث توجد أندية مصر الرياضية الكبري, ويعيشون نتيجة لعب الكرة أو حتي قبلها في قدر من اليسر, فإن هذه الطائفة من المعلومات تكفي لكي نعلم أنهم من أبناء الطبقة الوسطي المصرية الراهنة والتي تنتشر في قطاعات ناجحة من الاقتصاد مثل البنوك وشركات التأمين وصناعات التصدير والشركات المصرية والأجنبية متعددة الجنسية والسياحة, بالإضافة إلي مؤسسات عامة وخاصة ناجحة في مجالات الإعلام والخدمات المالية. وبالطبع فقد توجد هناك استثناءات فردية هنا أو هناك, ولكن الطابع العام لجماعتنا, أو لشريحتنا, أنها ابنة الطبقة الوسطي التي تكونت في مصر خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي, وبات لديها معرفة بالكون, والحال والترحال, والعولمة بأشكالها المختلفة من أول سطوة كأس العالم, وحتي شهرة الكئوس القارية, وما بينهما من مسابقات محلية في تركيا وألمانيا وبلجيكا والسعودية وكل من يقدر الموهبة والقدرة. وهنا لا يوجد فارق جدي ما بين القطاعات المختلفة من الطبقة الوسطي, وربما أحرزت جماعة كرة القدم, كما هو الحال في الموسيقي والغناء, كثيرا من الشهرة; إلا أنك إذا راقبت الصفحات الاجتماعية للصحف فسوف تجد جماعات الكرة والفن والاقتصاد في صحبة دائمة. وتقول الشريحة التي نفحصها تحت الميكروسكوب أن الفريق المصري كثير التحضير عند استحواذ الكرة, وعندما تكون الأحوال طيبة فإن الاستحواذ يستمر لفترة غير قصيرة, أما إذا كانت الأحوال علي غير ما يرام, فإنها كثيرا ما تتحول إلي هجمة مرتدة, ولكن مثل ذلك ليس موضوعنا, فما يهم هو أن التحضير الكثير يتحول فجأة إلي حالة هجومية سعيا لتحقيق الهدف, وكان ذلك هو ما حدث بامتياز, ولأربع مرات خلال المباراة الأخيرة مع الجزائر. مثل ذلك لا يختلف كثيرا عن أحوالنا العامة حيث نقضي وقتا طويلا في عمليات التحضير والدراسة والبحث الذي لا يخلو أبدا من التردد والانتظار, لعل المشكلات تحل نفسها بنفسها, ولكن الهجمة علي أي الأحوال تحدث في النهاية. وربما كان لدينا خلال العقدين الأخيرين قدر أكبر من الجرأة حتي إن الفارق ما بين الفكرة والتطبيق أصبح عشر سنوات فقط تقريبا; وكانت ترجمة ذلك في ملاعب كرة القدم الحصول علي ثلاث كئوس أفريقية-2008,2006,1998- ومن يعلم فقد يضاف لها كأس أخري غدا; أما ترجمته في الحياة العامة فيظهر في مؤشرات متعددة تشير بغير لبس لاتساع الطبقة الوسطي وزيادة درجة علمها واتصالها بالعالم. ولكن هذه الطريقة في الفعل سواء في المباريات الرياضية أو الحياة العامة لها جانبها الآخر, وهي أنها تعكس ضعفا بنيويا, حيث يبدو لاعبونا ضعاف البنية مقارنة بلاعبين آخرين, وفي أحيان كثيرة يبدون في حاجة لالتقاط الأنفاس, وهو ما يفسر فترات التحضير الطويلة, وحالات الإجهاد المفاجئة, وهو ما قد يتسبب في الهزيمة علي يد فريق سريع, أو بعد مجموعة من المباريات المجهدة. وخلال الفترة نفسها تقريبا التي حصلت فيها مصر علي ثلاث كئوس أفريقية فإنها فقدت الطريق إلي كأس العالم ثلاث مرات أيضا-2010,2006,2002- وخلال كأس القارات الأخير, وبعد إبهار العالم في مباراة مع البرازيل والفوز علي إيطاليا إذ بفريقنا ينهار أمام الفريق الأمريكي لكي يصبح آخر المجموعة بعد أن كان من المرشحين لقيادتها. هذه المفارقة ما بين القدرة القارية والقدرة العالمية موجودة في كثير من معدلات التجارة والاستثمار والنمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي المباراة الأخيرة مع الجزائر كان هناك فارق النضج القاري في الحالة الرياضية; فلم تكن المسألة هي أن مصر أحرزت أربعة أهداف, ولكن القضية كانت أن الحكم طرد ثلاثة من اللاعبين الجزائريين في واقعة لا تتكرر كثيرا, ولكنها عندما تحدث تعكس ضعفا هائلا في الروح الرياضية. ولكن تحليل الحالة الجزائرية ليست موضوعنا علي الأقل هذه المرة, ولكنها خلال المباريات الأربع في الجزائروالقاهرة والخرطوم وبنجيلا كانت ممثلة للعلاقات العربية العربية, حيث لم نشهد مثل هذه الروح: لضرب العمدي للاعبين وحتي مناطحة الحكم في أي من مباريات الجزائر الأخري, ولكنها كانت حامية وساخنة في حالة اللعب مع مصر. وقبل المباراة الأخيرة بأيام اتصل بي الكثير من الشباب بوسائل متنوعة يعيبون فيها علي الأهرام أنها تأخذ بكثير من التهدئة مع الجزائر, برغم ما اعتقد فيه هؤلاء الشباب بأن هذه الطريقة في التعامل مع الأشقاء تخصنا نحن فقط بينما لا يلتزم بها أي من هؤلاء الأشقاء في علاقته معنا. بالطبع كانت إجاباتي تنتمي إلي ما تربي عليه جيلي الذي عرف قضيتين للتحرير: الجزائر وفلسطين; وقد تحررت الأولي وأصبحت علي ما هي عليه الآن وبقيت الثانية علي حالها الذي عرفناه منذ أيام الصبا في الخمسينيات من القرن الماضي حتي جاء القرن الحالي. ولكن الفارق كان كبيرا بين جيلنا والجيل الحالي, وربما كان ذلك ما يفسر ما جري في شوارع القاهرة بعد فوز الخميس حينما خرج مئات الألوف من الشباب حاملين الأعلام المصرية ملوحين وهاتفين باسم مصر وحدها, ولا شيء غيرها هذه المرة. وببساطة كان لدي الجيل تساؤلات لم يفلح جيلي في الإجابة عليها وكان أبسطها هو إذا كان للجزائر وفلسطين مثل هذه المكانة العظمي في النفس المصرية والتاريخ المصري, فلماذا لا يجد كثيرون من الفلسطينيين والجزائريين أحدا يصبون عليه جام غضبهم غيرنا; وبينما يحاول الأولون اختراق حدودنا دون إذن أو تصريح, فوق الأرض وتحتها, فإن الأخيرين لا يجدون مشكلة في محاولة كسر أقدامنا؟ العينة في الشارع المصري كانت اكبر كثيرا من الشريحة التي كانت في استاد بنجيلا, وربما تحتاج فريقا كاملا من الباحثين, لبحث حالتها وأغوارها النفسية والفكرية, ولكن الملاحظة الأولية للملبس والسلوك والحالة الصحية والتعبيرات اللغوية تشير أولا إلي أنها من نفس الطبقة الوسطي التي جاء منها اللاعبون; وثانيا أنها جماعة إيجابية قررت الخروج والتعبير عن نفسها بأشكال مختلفة; وثالثا أنها في حالة شبق هائل للفوز والانتصار. وبعد عقد أو أكثر من الفوز القاري فإن هذا الجمع الهادر يريد مكانة في العالم كله, وحتي الآن فإنه وجد أن الجزائر, وبمخالفات واضحة للروح الرياضية, حرمتهم من الوصول إلي هذه المكانة. هنا فإن خطأ التقدير في الحالة وارد ومقبول, ولكن التشخيص يقول إن هؤلاء لديهم الشجاعة للخروج إلي الشارع, وإلي أي مكان آخر, من أجل مصر التي تبدو جلية في ألوان علمها, كما تبدو متجاوزة لما صنعه الكبار من أزمات. وبشكل من الأشكال كانت مصر حالة رومانسية متجاوزة للدين والعرق واللون تماما كما كان يريدها الآباء المؤسسون الأوائل للدولة المصرية مدنية وحديثة وجزءا من تفاعلات عالمية كبري قد تكون أولي بداياتها كرة القدم, ولكن جوهرها في النهاية هو حصول مصر علي المكانة التي تستحقها. هل تجاوزنا كثيرا ما كان موجودا في الشريحة تحت الفحص؟ ربما, وهل يمكن للأمل أن ينتصر علي التجربة؟ حقيقة واردة. لكن الباحث لا يمكنه تجاهل التطور الذي جري في مصر خلال العقدين الأخيرين وأعاد تشكيل البيئة الاجتماعية فيها. المدهش أن إعادة التشكيل هذه موضوع للإنكار من قبل طوائف سياسية متعددة في المجتمع, فهناك منذ البداية من لا يعترف بالبيئة الاجتماعية ولا يري القضية السياسية إلا في ميدان غسيل المخ بين الدين والحياة العصرية; وهناك من ينكر لأن الاعتراف ربما يعني نهاية حالة التحضير السياسية الطويلة وضرورة الإسراع في الذهاب إلي الهدف الذي ذهبت إليه كل الشعوب التي سبقتنا; وهناك من ينكر لأنه قرر منذ البداية أن البلد كله في حالة جمود وركود لا حركة فيه ولا تغير; وهناك من ينكر لأنه استقر علي مجموعة من السياسات الداخلية والخارجية التي لا يريد إعادة النظر فيها وربما قلبها رأسا علي عقب. ولكن الإنكار لا يغير من الأمر شيئا, والواقع كما نعلم دائما أكثر غني من كل تخيل, ولكن الإشارات والعلامات واضحة مع بدايات العقد الثاني للقرن العشرين, والرسالة التي قدمها الفريق القومي, ومن خرج وراءه من المواطنين هي أن الفوز ممكن, وربما آن الأوان للبحث عن أهداف- بلغة الرياضة- أرقي وأسرع وأعلي. والأمر هكذا أكبر كثيرا من مباراة غد مع غانا, وسواء فاز فريقنا أم جاوزه الحظ فإن ما علمناه من الشريحة يدعو إلي الخوف إذا تم التجاهل واستمر الإنكار; كما يبشر بالرجاء إذا ما حدثت الاستجابة ووجدت الفرصة من ينتهزها. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد