يقولون إنكم مصدر هذا اللهيب الذي اشتعل في القلب المصري, ويدعون أن صيحات الثأر من المسيحيين انتقاما من مجرم مسيحي ارتكب جرما شنيعا ويستحق عليه عقابا صارما قد أتت منكم. ويزعمون أن الجريمة التي ارتكبها مجرمو نجع حمادي قد أتت ثأرا لما أصابكم, ولعل محامي هؤلاء المجرمين سيبنون مرافعاتهم علي هذا الأساس, ولعلي لست بحاجة الي أن أرتل عليكم الآية الكريمة ولا تزر وازرة وزر أخري, ولكن واذا كان من يتصدون للافتاء في زماننا غير السعيد يفضلون الافتاء في مسائل تافهة, بل وأحيانا يفتون بما يلهب النار اشتعالا, فإنني أدعوكم الي مطالعة فتوي للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده, وهو من هو في التعمق في فهم الدين وفي الدعوة الي صحيحه. ونقرأ ما كتبه الشيخ رشيد رضا تلميذ الأستاذ الإمام كان بطرس باشا غالي وكيلا لوزارة الحقانية ونسبت له بعض الصحف علي سبيل الكيد أنه يجامل أبناء طائفة القبط, وبدأت حملة ضد الأقباط وكان الأستاذ الإمام مسافرا فأرسل الي أحد تلاميذه وهو سعد زغلول رسالة يطلب إليه فيها أن ينشر هذه الفتوي محذرا من التمادي في هذه المسألة, وتقول الفتوي إن التحامل علي شخص بعينه لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملة, فإن في ذلك اعتداء علي غير معتد, وهو مما ضرره أكثر من نفعه إن كان له نفع أصلا, فإنه يثير الساكن, وينطق الساكت ويؤلب القلوب, فليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا الي إحدي الطوائف المتواطنة في أرض واحدة فيشملوها بشيء من الطعن, أو ينسبوها الي شائن من العمل, فإنه مما يرسل العداوات الي عمائق القلوب, فإذا تنافرت الطوائف تشاغلت كل منها بما يحط من شأن الأخري, فكانت كل مساعيهم ضررا علي أوطانهم, وتمضي فتوي الأستاذ الإمام لتقول من الواجب علينا المحافظة علي وصية النبي صلي الله عليه وسلم, فقد عهد الي أصحابه اذا فتحوا مصر أن يستوصوا بقبطها خيرا, وقد كان حسن حال الأقباط مظهرا لصدق نبأه عليه الصلاة والسلام, كما أن كثيرا من اسلاف هذه الطائفة كانوا أمناء علي مال الحكومة المصرية في الدول الإسلامية المتعاقبة بما أجادوا من صناعتي الحساب والكتابة, ولم تعهد منهم فتنة ولم يذكر لهم علي البلاد غائلة, فلا ينبغي لمبتغي أن يمس شأنهم بالعنوان العام, ويكمل الأستاذ الإمام فتواه بالدفاع الحار عن بطرس باشا غالي وعن مسلكه في وظيفته ناعيا علي أصحاب الجرائد تحاملهم عليه لكونه قبطيا,[ الشيخ محمد رشيد رضا تاريخ الأستاذ الإمام المجلد الأول ص92]. ويواصل الأستاذ الإمام محذرا, ليس من أصحاب الجرائد وحدهم وانما ممن يدعون أنهم يتحدثون باسم الدين فيخرجون عن حد الاعتدال الي مبالغة وغلو, ويرفض الأستاذ الإمام دوما كل أشكال التعصب الديني ونقرأ له وقد يطرأ علي التعصب الديني من التغالي والإفراط ما يفضي الي ظلم وجور, أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف قد شطت في تعصبها في الأجيال الماضية, إلا أنه لم يصل الافراط في هذا التعصب الي حد يقصدون فيه الإبادة لمخالفيهم في دينهم, وما عهد ذلك أبدا في تاريخ المسلمين, ويمضي الأستاذ الإمام وكأنه يحدثنا نحن في هذا الزمان المتردي فيقول ولنا الدليل الأقوم علي ما نقول وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم الي الآن حافظة لعقائدها وعوائدها, ومن العقائد الراسخة عند المسلمين القول الحكيم: من رضي بذمتنا فله مالنا وعليه ما علينا, ومن نشأة المسلمين الي اليوم لم يدفعوا أحدا من مخالفيهم عن التقدم الي ما يستحقه من علو المرتبة وارتفاع المكانة, ولقد سما في دول المسلمين علي اختلافها الي المراتب العالية كثير من أرباب الديانات, ثم يختتم الأستاذ الإمام كتابته قائلا في حدة سحقا لقوم يظنون أن علي المسلمين أن يمنعوا مخالفيهم من حقوقهم[ المرجع السابق المجلد الثاني ص254]. ونعود لنتأمل فتوي الأستاذ الإمام وكتاباته, نلخصها ونكررها لعلها تكون هاديا لنا في أيامنا هذه: إن التحامل علي شخص بعينه لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو ملة. إن هذا الطعن مما يرسل العداوات الي عمائق القلوب, ويثير الساكن وينطق الساكت. فإذا تنافرت الطوائف تشاغلت كل منها بما يحط من شأن الأخري. إن بعض الطوائف قد شطت في تعصبها في الأجيال الماضية إلا أن الإفراط لم يصل الي حد إبادة المخالفين في الدين, ونواصل رحلتنا مع الأستاذ الإمام فنقرأ في كتاب آخر له حديثه عن رجل مسيحي من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي أحسن من العلم فنونا كثيرة حتي كان أشهر فلاسفة وقته وأطبائه ومناطقته ويقول كثير من مؤرخي الغربيين والمسلمين إن عمرو بن العاص سمع به فقربه منه وأكرمه لعلمه, ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتي قال أحد فلاسفة الغرب إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي والإسلامي من الأفكار الحرة والرأي العالي, ويهاجم الشيخ محمد عبده دعاة التطرف الديني وقال حول موقفهم من الإسلام لا هم فهموه فأقاموه ولا هم رحموه فتركوه وهم يزعمون أنهم من الإسلام أهله وعشيرته وحماته وعصبته وهم ليسوا منه في شيء إلا كما يكون الجهل من العلم والطيش من الحلم[ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ص84]. والآن يا أخوتي في فرشوط أتمني أن تكون رسالتي قد وصلت, أما هؤلاء المحرضون والمنادون بغير ما أنزل الله الداعون الي التعصب فإليهم أقول قولة الأستاذ الإمام: سحقا لقوم يظنون أن علي المسلمين أن يمنعوا مخالفيهم من حقوقهم. .. وتعالوا نردد جميعا هذه العبارة ففيها طوق نجاة لنا ولوطننا ولمستقبلنا. المزيد من مقالات د. رفعت السعيد