قلق المصري الوطني علي بلده في المرحلة الراهنة, علامة صحة ويقظة, ووفاء وإخلاص... فالظروف والملابسات التي تمر بها مصر حاليا, وستمر بها خلال السنوات العشر المقبلة, تدعو إلي أن ننظر إلي الأمور بيقظة ونحللها بإمعان. ولسوف أحصر دوري في هذا المقال علي قراءة وضع مصر الجيواستراتيجي, وأبعد عن الوضع والةستقرار الداخلي رغم الأهمية البالغة لهذا العنصر في التقويم الاستراتيجي لمصر كعنصر مؤثر في استقراء الوضع الاستراتيجي المصري. ويستند استشراف الوضع الاستراتيجي, علي تحديد التهديدات المباشرة, وغير المباشرة علي الأمن القومي المصري, ليمكننا أن نتلمس كيفية ملاقاة الموقف بصورة براجماتية تعتمد علي الرصد والتحليل والتنفيد واختيار أنسب الوسائل لملاقاة هذه التهديدات. وإذا ما بدأنا بالتهديدات المباشرة لمصر بصورة محددة ومختصرة فسوف يمكننا أن نحصر أهمها في الآتي: أولا: إسرائيل ثم إسرائيل... فمنذ بدأنا ندرس علوم الاستراتيجية وإسرائيل تقع علي قمة التهديدات المباشرة للأمن القومي المصري, ولم يتغير وضعها علي مدي الخمسين عاما الماضية بل ربما تزايد بعد أن تنوعت الأساليب الإسرائيلية في تهديد الأمن القومي المصري حتي بعد توقيع اتفاقية السلام لتمتد من المواجهة المباشرة إلي محاولات تطويق مصر من الشمال الشرقي والجنوب الإفريقي وغيرها. ثانيا: تغير موازين القوة العربية في منطقة الشرق الأوسط, فقد كانت مصر من العلامات الرئيسية في قياس موازين القوة العربية في المنطقة, ولم تكن تعتبر إحدي الدول التي تحسب علي الدول المعتدلة سواء إسلاميا أو سياسيا يشاطرها في هذا التوصيف بعض الدول العربية منها الاردن والسعودية, وبروز بعض الدول المحكومة بأدوار سياسية محددة مثل قطر, أو دول تسعي إلي أن تثمن دورها السياسي لدعم موقفها التفاوضي لاستعادة أرضها المحتلة مثل سوريا, أو دولة محكومة من الداخل بقوة عسكرية لا يمكنها الإفلات من سطوتها بصورة راديكالية وقوة سياسية لا يمكنها أن تمسك بدفة الحكم بصورة كاملة مثل لبنان, ودول بدأت مشوار التمزق الطائفي الداخلي نتيجة لمواقف حكوماتها التي أدت لتمزيق نسيج الوحدة الوطنية باتخاذها مواقف لا تتسق مع أبجديات الحكم الرشيد أو نتيجة لاقتحام أكثر من مائة وأربعين ألف عسكري أمريكي أراضيها لاسقاط نظام الحكم وتزييف شعار فرض الديمقراطية بها كمدخل مثل السودان والعراق, إضافة إلي ما سبق فقد دخلت قضية فلسطين ثلاجة التاريخ المعاصر بعد أن كبلت السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها بقيود اتفاق أوسلو, وجاءت السلطة الوطنية الفلسطينية لتحكم, ووضعت منظمة التحرير الفلسطينية علي رف الأرشيف, مما أدي إي تسرب العدوي إلي منظمة حماس التي تسعي أيضا للحكم وانفرادها بغزة, وضاعت القضية الفلسطينية نتيجة لأطماع الحمسويين والفتحويين في مناصب الحكم, ليصبح شريان الأورطي الذي كان يربط الدول العربية مسدودا بوابل من مخلفات المواقف العربية المتخاذلة. ثالثا: وفي إطار هذه السلبيات التي كست بساط الوضع العربي, كان من المتلازمات نشوء قوي جديدة تملأ هذا الفراغ الجيواستراتيجي, وأفسح المجال أمام قوتين كانتا تتلمسان الطريق لاحتلال الموقع المناسب لوزنهما الاستراتيجي والجيواستراتيجي وهما تركيا وإيران, فتركيا وجدتها فرصة للامتداد الإقليمي لأغراض اقتصادية, وإيران وجدت مرادها بعد أن توغلت في العراق كقوة شيعية لتمد نفوذها في منطقة تمثل بالنسبة إليها امتدادا لمراميها الاستراتيجية وهي التواجد النشط في منطقة الخليج الفارسي مع تحقيق المد الشيعي في المناطق المحيطة خاصة بعد أن ترسخ في لبنان كمحور انتشار, وذلك بهدف تعديل ميزان القوة في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة والغرب بصفة عامة ولا يستبعد مطلقا أن تنجح إيران في تحقيق دخولها للنادي النووي لتقنن وضعها كقوة إقليمية شرق أوسطية كبري إن لم تكن عظمي. رابعا: انفصال جنوب السودان, واحتمال أن يؤدي هذا الوضع إلي التلويح بتهديد أمن مصر المائي, خاصة أن الجنوب السوداني يشكل في هذه المرحلة مطمعا للعديد من الدول منها الولاياتالمتحدة والصين الشعبية, وغيرها لما هو معلوم عن وجود مخزون كبير للبترول تحت أراضيه, وتطلع بعض الدول الخليجية, وربما ليبيا إلي الدخول باستثمارات كبيرة للاستفادة من فائض المياه, وخصوبة الأرض لتحقيق المشروع الذي كثيرا ما نادينا به من جعل السودان مزرعة العالم. خامسا: فتح جبهتين جديدتين علي مصر هما غزةوالجنوب السوداني كمهددين مباشرين للأمن القومي المصري في هذه المرحلة. سادسا: تهدل الرباط الاستراتيجي الذي كان يربط ما بين مصر والولاياتالمتحدةالأمريكية بعد تراكم العثرات في مسار السلام, وانتفاء الدور المصري الجوهري في دفع هذا المسار إلا في إطار المصالحة الفلسطينية إن نجحت وعدم وجود روابط منافع استراتيجية مباشرة محققة بين البلدين. سابعا: تأزم الوضع الاقتصادي المصري في المرحلة المقبلة, وانعكاسه علي قدرة مصر علي التحرك الإقليمي الفعال, أو زيادة قدرتها علي تنمية قوتها الناعمة في الانتشار إقليميا وعربيا. أما عن التهديدات غير المباشرة علي الأمن القومي المصري, فإن اهمها: أولا: انخفاض مستوي التعليم والبحث العلمي في مصر, وانعكاسها علي مكانة مصر العربية والإقليمية, والحد من قدرة العمالة المصرية علي المنافسة والانتشار في المنطقة العربية والافريقية كحد أدني. ثانيا: انخفاض تأثير مصر في مجال الثقافة والفنون نتيجة لتدني الاهتمام باللغة العربية والإبداع الثقافي والفني والركون إلي اللهجات المحلية, وجمود حركة النشر والاعتماد علي القراءة الالكترونية كأساس. ثالثا: انحصار دور مصر كدولة نموذج يحتذي بها في الإقليم العربي أو الإفريقي. وبعد أن نقرأ بتمعن هذه المهددات للأمن القومي المصري في المرحلة المقبلة, أليس من حقنا أن نتساءل: ثم ماذا يمكننا أن نفعل لتلافي الآثار الجانبية لهذه المهددات؟!!