انتهت الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب المصري بانتصار ساحق للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. هكذا تبدو الصورة للوهلة الأولي, ولكن التأمل العميق لأبعادها ولتسلسل تفاصيل الانتخابات النيابية عبر نصف القرن الأخير. وربما قبل ذلك, كفيل بأن يضع أيدينا علي المأزق الذي يعانيه الحزب الوطني بعد تلك السلسلة الطويلة من الانتخابات, والذي تزداد خطورته مع مضي الزمن. ولست أقصد بالحديث عن المأزق الإشارة إلي ما اعتدناه للأسف من حديث متكرر عن التجاوزات والتزوير والتسويد والبلطجة وإعاقة تنفيذ الأحكام القضائية والتلكؤ في منح التصاريح لمندوبي المرشحين وللمخولين بمراقبة الانتخابات إلي آخره. ما أعنيه أمرا آخر لعله الأخطر: إنه ذلك الإصرار المستمر من غالبية المواطنين ممن لهم حق الاقتراع علي الامتناع عن المشاركة في الانتخابات مما يشكك من الناحية الواقعية وليست القانونية في تمثيل النواب لجموع المصريين حتي لو ثبت يقينا أن تلك الانتخابات قد أجريت بنزاهة تامة وشفافية مطلقة. وللحقيقة فإن القيادات الحالية للحزب الوطني لم توجد هذا المأزق بل انتقل إليها بالوراثة, وتنحصر مسئوليتها وهي مسئولية كبيرة علي أي حال في أنها استمرأت هذا الإرث ولعله بدا لها براقا ثمينا, ومن ثم فقد استثمرته علي الوجه الأكمل في الانتخابات الأخيرة فأحرزت ما بدا كما لو كان فوزا ساحقا. وانطلقت التحليلات تتحدث عن هشاشة أحزاب المعارضة وضآلة جماهيريتها, كما لو أن الأمر لا يشمل الحزب الوطني الحاكم. لقد غابت عنا حقيقة شديدة الوضوح وهي اجتماع كلمة جميع الأحزاب التي شاركت في الانتخابات وعلي رأسها الحزب الوطني, إلي جانب المستقلين, بالإضافة إلي المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية علي حث المواطنين علي الإدلاء بأصواتهم باعتبار ذلك واجبا وطنيا بل يكاد يكون واجبا دينيا. ورغم كل ذلك فقد كانت الحقيقة الصادمة أن جميع المرشحين قد تنافسوا علي أصوات نسبة محدودة من المواطنين ممن لهم حق الاقتراع, في حين أن ما يقرب من ثلاثة أرباع المصريين قد أولوا ظهورهم للمشهد بأكمله. تري هل نبالغ إذن إذا ما خلصنا إلي أن الفائز في هذه الانتخابات مهما كان فوزه كاسحا فقد حصل علي النسبة الأكبر من أصوات أقلية ممن لهم حق الاقتراع, ومن ثم فإنه لا يعدو أن يكون الأول بين أحزاب الأقلية. إن لتلك الظاهرة المتوارثة تاريخا ممتدا يسبق نظام يوليو52 الذي قام علي أكتاف ثلة من الضباط الأحرار ممن مارسوا السياسة قبل استيلائهم علي السلطة بسنوات طوال, اقتربوا من الإخوان المسلمين ومن الوفد ومن مصر الفتاة وغيرها, بل إن عبدالناصر كان يفخر وبحق أنه قد أصيب وشجت رأسه خلال مشاركته في مظاهرة سياسية حين كان طالبا, وأعلن قادة النظام الجديد أنهم يسعون لإقامة حياة نيابية سليمة عوضا عن الحياة النيابية الفاسدة السابقة, ولكن بدا لهم بعد قليل أن السبيل الأسرع والأكثر أمنا لتحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية يقتضي اجتثاث النظام الحزبي كلية, أي تحريم ممارسة العمل السياسي الجماعي المنظم المستقل عن النظام ففرضوا حظرا علي ممارسة السياسة في المدارس والجامعات والمصانع والنقابات والمساجد والكنائس والجمعيات الأهلية والأندية الرياضية. ولما لم يكن بد لقيادة الجماهير من تنظيم سياسي, فقد بزغت فكرة التنظيم الحكومي الواحد وتجريم أية ممارسة سياسية تخرج عن إطاره, وانتقل ذلك التحريم والتجريم من هيئة التحرير إلي الاتحاد القومي ثم انتقل مع التوجه نحو الاشتراكية إلي الاتحاد الاشتراكي وتنظيم طليعة الاشتراكيين, وظل ذلك الميراث الفكري لصيقا بالحزب الحاكم عبر تحولاته السياسية والفكرية. ولعله مما يستوقف النظر ويجسد المأزق الذي نتحدث عنه أن تلك التحولات السياسية والفكرية الواضحة التي صاحبت الانتقال من هيئة التحرير وحتي طليعة الاشتراكيين لم يصاحبها تغير في وجوه القادة بل ظل القادة كما هم رغم تغير التوجهات السياسية للنظام, علي عكس ما تعرفه دول العالم قاطبة من تغير الأشخاص وثبات السياسات التي تعبر عنها التنظيمات السياسية. ومضي النظام في سبيله مدعما مبدأ تحريم ممارسة العمل السياسي الجماعي المنظم المستقل عن النظام, ومن ثم ضمرت ثقافة تعزيز الاختلاف السياسي, وضمرت بالتالي ثقافة المشاركة السياسية, واستمر الحال كذلك لسنوات طوال. ويبدو أن ذلك العزوف عن المشاركة كان مريحا للسلطة التي استمرأته وعملت علي ترسيخ جذوره بحيث أصبح بمثابة الثقافة السائدة, حتي بعد الإقدام علي قرار إنشاء المنابر السياسية ثم السماح المحدود بتشكيل الأحزاب السياسية شريطة موافقة لجنة الأحزاب. إن المشاركة السياسية بجميع مظاهرها وعلي رأسها المشاركة في الانتخابات, ليست خاصية موروثة جينيا, بل إنها تكتسب من خلال الممارسة المجتمعية التي تدعم ثقافة الحق في معارضة السلطة التي تستمد شرعيتها الحقيقية من تعبيرها عن إرادة غالبية الجماهير وليس عن غالبية الأقلية. إن قيادات الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم باعتبارهم الوريث التاريخي لذلك التراث, يتحملون المسئولية الأولي في الخروج من هذا المأزق إنقاذا لحزبهم في المقام الأول, ولا أظن أن السبيل غامض يحتاج إلي دراسات مطولة, ولا هو محفوف بمخاطر لا قبل لأحد بتحملها, ولا هو أمر مبتكر لم يعرفه غيرنا وعلينا بذل الجهد لاكتشافه. إنه في حاجة فحسب إلي قرار سياسي شجاع يكون بداية مجرد بداية للخروج من المأزق. إن أخطر ما يهدد مستقبل العمل السياسي في هذه المرحلة هو أن يسيطر علي الفائزين زهو الانتصار, وأن يصبح يوم فوزهم هو يوم أن أعجبتهم كثرتهم. [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني