اندونيسيا من نماذج الدول التي تستحق التأمل, فالتجربة الاندونيسية مليئة بالمفارقات, فجاكارتا انتقلت من فئة الاقتصاديات الفقيرة إلي الاقتصاديات المتوسطة في فترة زمنية سريعة, إلا أنها مالبثت أن عادت للمشكلات الاقتصادية بعد عام1997. عندما شهدت منطقة جنوب شرق آسيا اضطرابات اقتصادية كبيرة كادت أن تنهي الازدهار الاقتصادي الكبير الذي كان منتشرا في هذه المنطقة. وقد تزامن مع هذه المشكلات عراقيل أخري تمثلت في نظام سياسي يعاني من الفساد, إضافة إلي كوارث طبيعية وصلت إلي حد تسونامي الذي قتل الآلاف ودمر قري بأكملها. والحقيقة أن التجربة الاندونيسية قد مرت بمراحل عدة, فقد وقعت إندونيسيا تحت الاحتلال البرتغالي والهولندي والاسباني والياباني وظل الشعب يحاول الوصول إلي الحرية إلي أن جاءت هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية عام1945, ليتحقق الاستقلال ويصبح أحمد سوكارنو رئيسا للبلاد. ورغم حصول الاستقلال في إندونيسيا, إلا أن أيا من الآمال بالرخاء والازدهار لم يتحقق. فقد كان سوكارنو مؤمنا بالشيوعية بشكل كبير وبسيطرة الحزب الواحد علي مقاليد الحكم, فأدي ذلك إلي كبت الحريات وانعدام التعدد الحزبي والتباطؤ الاقتصادي الشديد ومع التدهور الشديد في الحالة المعيشية للشعب الإندونيسي آنذاك كان لابد للجيش أن يتدخل فجاءت ثورة1965 تلك الثورة التي قادها سوهارتو الذي كان وزيرا للدفاع آنذاك, ولكن سوهارتو لم يعط البلاد الحرية التي كان يرجوها السكان إلا أن عهده شهد رخاء وانتعاشا اقتصاديا غير مسبوق في تاريخ إندونيسيا. في تلك الفترة أصبحت إندونيسيا إحدي النمور الآسيوية المرشحة لأن تصبح نموذجا للدول التي تمكنت من تحقيق معدلات تنمية كبيرة, كما أنها في الوقت نفسه مرشحة لأن تكون دولة من الدول الكبري, فهي الرابعة علي مستوي العالم من حيث عدد السكان, كما أنها من أكبر الدول الإسلامية من حيث السكان والمساحة. وكل هذه مؤهلات كان من الممكن أن تضع إندونيسيا في مصاف الدول الكبري. وفي تلك الفترة كانت الآمال عريضة ولكن وقعت الأزمة الاقتصادية الشهيرة التي ضربت النمور الآسيوية وكان ذلك عام1997. وتعرضت إندونيسا آنذاك لزلزال اقتصادي كبير دمر ما تم إنجازه خلال السنوات التي سببت الإزدهار الإقتصادي, وهنا دخلت البلاد في منحني جديد حيث صب الجميع جام غضبهم علي سوهارتو واتهموه بالفساد. والحقيقة أن المعلومات كانت تقول إن سوهارتو كان شريكا في عشرات الشركات العملاقة آنذاك كما كانت ثروته تقدر بعشرات المليارات. ووسط هذه الحالة لم يكن أمام سوهارتو سوي الاستقالة من منصبه كرئيس للبلاد, فجاء بعده يوسف حبيبي رئيسا وكان الانفتاح الحقيقي في عهده حيث قاد الرجل انفتاحا سياسيا واقتصاديا كبيرا ثم تلاه عبد الرحمن واحد الذي أخذ علي عاتقه محاربة الفساد. وقد حاول الرجل كثيرا من أجل هذه الغاية, إلا أن الفساد كان متجذرا بشكل كبير في الدولة مما يصعب القضاء عليه في يوم وليلة. وقد تلت واحد في الحكم ميجاوتي سوكارنو التي بدلا من أن تحارب الفساد أغرقت البلاد فيه. وأعقب ميجاوتي سوكارنو الرئيس الحالي سوسيلو يوديونو, الذي رفع راية الإقتصاد الحر وما تضمنه ذلك من فتح للأسواق وتحرير للتجارة وتشجيع للإستثمار, الأمر الذي أدي لزيادة معدلات التنمية في البلاد خلال الآونة الأخيرة. ولكن وللأسف الشديد تزامن ذلك مع كارثة تسونامي الرهيبة التي أثرت بشدة علي القطاع الاقتصادي في اندونسيا, حيث تأثرت السياحة بشدة وغيرها من القطاعات الهامة في البلاد. وهنا يظهر مدي الأزمات والمشكلات التي تعرضت لها إندونيسيا, والحقيقة أن البعض يرجع أسباب الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها إندونيسيا إلي فساد الإدارة والبعض الآخر يقول إن إجراءات صندوق النقد والبنك الدوليين كانت وراء إزدياد معدلات البطالة وتدهور الحالة المعيشية, وآخرين يقولون أن التسرع في التحول من النظام الشيوعي المغلق إلي نظام السوق المفتوح كان أحد الأسباب التي أدت إلي التدهور الاقتصادي الذي شهدته البلاد. ومن الأسباب الهامة التي لايمكن التغاضي عنها أن الاقتصاد الإندونيسي شهد مراحل اضطراب مختلفة, ففي واحدة منها كان الاعتماد علي البترول كمصدر دخل وحيد للبلاد, وبعد ذلك بدأ التحول السريع إلي الاقتصاد متعدد الموارد. ويبدو أن التحول من حالة إلي أخري كان سريعا للغاية. وثمة أمر خطير لايمكن التغاضي عنه, ألا وهو أن التعدد العرقي في إندونيسيا كان له أثر كبير علي تضارب المصالح بين القطاعين العام والخاص, الأمر الذي أعاق مسيرة التقدم بشكل كبير. و لكن خلال السنوات القليلة الماضية تمكنت اندونيسيا من تشكيل قوة دفع مناسبة للقيام بالإصلاحات المطلوبة في أسرع وقت ممكن. فقد وضعت برنامجا إطاريا لمشاركة القطاع الخاص في البلاد, كما طبقت نظاما جديدا لإدارة الأزمات. وعدلت إجراءات حيازة الأراضي وغيرت من قوانين المرور وتعمل الحكومة حاليا علي تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص. إندونيسيا أيضا أنشأت هيئات لإدارة وسائل النقل والموارد المائية والاتصالات. كما تم وضع إجراءات جديدة للحد من الدعم المقدم علي الوقود الأمر الذي يعجل بالإصلاح الاقتصادي في البلاد.