لا يوجد لدي شك في أن نتائج الجولة الأولي للانتخابات التشريعية التي جرت يوم الأحد الماضي كانت مفاجأة كبري لكل أطراف العملية السياسية في مصر أيا كان موقعهم. وأعرف قيادات كبيرة في الحزب الوطني الديمقراطي نفسه لا تزال تفرك أعينها غير مصدقة لما رأته حينما جاءت الأنباء بشلالات من الأخبار التي تعطي الحزب ما لم يحصل عليه منذ سنوات طويلة. لم تكن المفاجأة الكبري ناجمة فقط عن النجاح, والحصول علي أعلي الأصوات, وإنما في الانكسار الكامل, والهزيمة الساحقة لتنظيم الإخوان المسلمين المحظور الذي استخدم مظلة المستقلين لكي يحظي بالمكانة الشرعية في الساحة السياسية. وإذا كان ذلك هو ما سعي إليه الحزب, فإن كل المفاجآت لها دائما نتائج غير مقصودة, حيث حصلت أحزاب المعارضة المدنية علي أعداد متواضعة من المقاعد, تقل كثيرا عما توقعت, وتوقع الحزب الوطني أيضا. وربما كان أكثر أركان المفاجأة سطوعا أن المعركة الانتخابية لم تحسم فقط في الجولة الأولي بل إنها أيضا حسمت بحسم شديد في الجولة الثانية أيضا; وإذا كان الحزب الوطني قد حصل علي209 مقاعد في الجولة الأولي, فإنه بات من المؤكد أن يحصل علي114 مقعدا في الإعادة, لأن جولة الانتخابات سوف تجري بين اثنين من مرشحيه, وفوقها75 مقعدا آخر تجري الإعادة فيها بين ممثل للحزب الوطني, وآخر كان من الحزب وخرج عليه مستقلا لأغراض الترشيح ووفقا للسوابق فإنه قد يعود مرة أخري إلي صفوف الحزب. ومعني ذلك أن الحزب قد ضمن الفوز, أيا كانت نتائج الانتخابات الأخري مع المعارضة أو مع التنظيم المحظور, بنحو398 مقعدا, أو78,34% قبل أن تبدأ وقائع الجولة الثانية من الانتخابات, وقبل أن نعرف السلوك السياسي لباقي المستقلين. مثل هذه المفاجأة تحتاج إلي تفسير, وربما كان ممكنا تجنب مثل هذا الشعور بالمفاجأة لدي البعض والصدمة لدي البعض الآخر, لو أننا أخذنا بالجدية التي يستحقها استطلاع الرأي الذي أجراه مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام علي عينة من2000 مفردة, وجاء بعض من نتائجه المنشورة بالأهرام في اليوم السابق علي الانتخابات,مشيرا إلي أن نسبة المشاركة في الانتخابات سوف تكون35%, وأن تفضيل الناخبين للأحزاب يتجه نحو الحزب الوطني الديمقراطي بنسبة80.2% أي بفارق ضئيل قدره1,86% عما حدث بالفعل, وهي نسبة من الدقة العالية في قراءة الواقع السياسي المصري. ولكن قلة علي الأرجح هي التي قرأت تقرير مركز الدراسات قبل حدوث الانتخابات من الأصل; ومن قرأ التقرير ظل متشككا فيما أتي به من نتائج, ومن ثم كانت المفاجأة. لكن التنبؤ أيا كانت دقته لا يعفي من البحث عن تفسير حيث إنه لا يقول لنا أكثر من أن ما يحدث هو نتيجة لمتغيرات جارية في الواقع, وعلي من يهمه الأمر البحث عنها حتي يبصر ما سوف يأتي من أحداث. وعلي أي الأحوال فإن التفسير الأول والشائع بين صحف كثيرة وفضائيات متعددة وحركة الأحزاب والجماعات السياسية يمكن وضعه تحت عنوان لم تخل منه أي انتخابات مصرية وهو التزوير, وهو عنوان احتشدت حوله قائمة طويلة من تسويد البطاقات, والعنف, ومنع المندوبين والمراقبين من دخول اللجان, ومحاصرة جمعيات المجتمع المدني, وضرب قنوات تليفزيونية حتي لو لم يكن لهذه القنوات علاقة بالانتخابات, وإيقاف برنامج تليفزيوني شهير, وتحويل ملكية صحيفة معارضة من المعارضة المفتوحة علي هوي كتابها إلي المعارضة المنظمة المرتبطة بعضوية حزب الوفد. هذه القائمة بجميع تفاصيلها موجودة في جميع بيانات جماعات حقوق الإنسان المصرية, وجمعيات أخري دخلت الساحة بمناسبة الانتخابات, ورددتها خلفها جميع وسائل الإعلام الأجنبية, وجاءت في بيان جماعة العمل من أجل مصر, وترددت بتفصيل كامل في مجموعة الوثائق والمقالات والدراسات التي أصدرتها مؤسسة كارنيجي الأمريكية بتوقيع الباحثة الأمريكية ميشيل دان, والباحث المصري عمرو حمزاوي. وبالتأكيد إن هناك بعضا من الأمور في هذه القوائم يمكن مناقشتها, فليس واضحا ما إذا كانت صحيفة الدستور تحت قيادتها السابقة أو وجود برنامج القاهرة اليوم أو مجموعة من القنوات الساعية للفتنة الطائفية أو أساليب المعالجة بالأعشاب كانت سوف تغير من نتيجة الانتخابات; ولكن الأهم من ذلك كله هو غياب حقيقتين أساسيتين من هذه القوائم الطويلة: أولاهما: أن اللجنة العليا للانتخابات اعترفت في تقريرها أنه قد جرت أحداث شغب في16 دائرة, وتم إبطال1053 صندوقا شابها العبث, ونتيجة وجود شبهة للتزوير فقد تم إلغاء النتائج في دائرة بيلا, ومعها قامت محكمة القضاء الإداري بإلغاء النتائج في سبع دوائر في ثلاث محافظات. وثانيتهما: أنه لم يذكر أبدا في أي من هذه التقارير علي كثرتها وادعاء علميتها, لا العدد الكلي للدوائر, ولا العدد الإجمالي للنقاط الانتخابية التي جرت الانتخابات فيها لأنه لا يمكن قياس حالة التزوير في الانتخابات إلا من خلال نسبتها إلي الواقع الكلي للانتخابات. ولو كانت الحال كذلك لكانت المخالفات المرصودة نسبت إلي508 مقاعد نيابية في222 دائرة انتخابية مضافا لها64 دائرة تخص الحصة المخصصة للمرأة. وجري كل ذلك من خلال أكثر من44 ألف موقع انتخابي عملت تحت إشراف2286 قاضيا, وتمت مراقبتها من خلال6130 مراقبا من المجتمع المدني بالإضافة إلي الصحافة المحلية والعربية والدولية. إضافة الحقيقة الأولي إلي الثانية تضع الأمور كلها في نصابها بشكل مختلف تماما, فالاكتفاء بذكر1053 مخالفة فادحة يجعل الأمور تبدو كما لو كانت المخالفات ظاهرة عامة في كل اللجان, ولكن نسبتها إلي أكثر من44 ألف نقطة انتخابية تضع الأمور في نصابها, وكذلك الحال بالنسبة إلي نتائج الدوائر التي جري إلغائها عند نسبتها إلي العدد الكلي للدوائر. المعني هنا هو أن هناك تجاوزات وأخطاء وعنفا قد حدث, ولكن النظام الرقابي علي الانتخابات عمل علي تصحيحها ليس اعتمادا علي تقارير مؤسسة كارنيجي, أو جماعة العمل من أجل مصر الأمريكية, وإنما من خلال الآليات الخاصة بنا ونظامنا الانتخابي الذي نتمني له أن يشفي من هذه الأمور, ويكون لديه من الإمكانيات, والمساحات التي تتيح حرية حركة أكبر للجمعيات المدنية لكي تراقب الانتخابات كما تشاء. وبالطبع لو أن الرقابة الأجنبية الصحيحة كانت موجودة لكان الواقع الحقيقي كما جري قد ظهر دون مماحكة ومداورة من قوي كثيرة داخل مصر وخارجها. ففي هذه الحالة لم تكن النسب قد أخذت في الاعتبار فقط, بل لأضيف لها نسبة أخري إلي التاريخ حيث تشير الإحصاءات المتوافرة إلي أن انتخابات2010 تعد من أقل الانتخابات التي شهدت معدلات عنف انتخابي حاد. فقد بلغ عدد القتلي10 في انتخابات عام1990, و59 في انتخابات1995, و50 في انتخابات2000, و13 في انتخابات2005, وكلها أرقام للضحايا تزيد علي ما شهدته مقارنة بعدد القتلي في الجولة الأولي لانتخابات2010 لا يتجاوز أربعة لأسباب لا يتعلق أغلبها بالعملية الانتخابية. ولكن الحزب الوطني الديمقراطي رفض الرقابة الخارجية لأسباب سيادية ووطنية; وربما كانت هذه الأسباب أيضا هي التي دفعت قوي المعارضة إلي الرفض, ولكن يضاف لها سبب آخر, وهو أن وجود الرقابة الخارجية كان له أن يضع حدا للحاجة الراهنة, ويدفعنا دفعا بعيدا عن استسهال الحديث عن تزوير للبحث عن أسباب أخري حقيقية لمفاجأة الانتخابات المصرية. السبب الأول للمفاجأة هو أن ما جري توقعه عن وجود صفقة بين الحزب الوطني الديمقراطي وأحزاب المعارضة المدنية لم يكن له وجود في الواقع ولا في ذهن أحد إلا في خيالات الفضائيات والصحف الباحثة عن مؤامرة من نوع أو آخر. ومن ثم فإن ما حدث لم يكن مفاجأة علي الإطلاق وإنما تكرار لاتجاه رئيسي في السياسة المصرية حيث تظهر كل المؤشرات الخاصة بأوضاع الأحزاب السياسية المدنية منذ ظهورها عام1976 حتي الآن ضعفها الشديد, سواء فيما يتعلق بحجم عضويتها, أو تمثيلها البرلماني أو أدائها السياسي أو حتي معرفة المواطنين بها. فبالنسبة لتمثيل المعارضة في البرلمان المصري, قد تباين تمثيل أحزاب وقوي المعارضة في مجلس الشعب من فترة لأخري. ففي انتخابات1984 كان حزب الوفد هو الوحيد الذي يحظي بتمثيل داخل المجلس, حيث خاض الانتخابات بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين, وحصل علي58 مقعدا, كان من بينها8 مقاعد من نصيب الإخوان, أما أحزاب العمل والأحرار والتجمع فقد أخفقت في الحصول علي تمثيل برلماني, لعدم قدرة أي منها علي تجاوز شرط ال8 في المائة الذي كان يحدده قانون الانتخابات حينذاك. وفي انتخابات1987, حصل حزبا العمل والأحرار المتحالفان مع الإخوان علي60 مقعدا, في حين حصل الوفد علي35 مقعدا, ولم يتمكن حزب التجمع من الحصول علي أي تمثيل في المجلس. وفي انتخابات1990 كان حزب التجمع هو الوحيد الممثل في المجلس بخمسة مقاعد, وذلك بسبب مقاطعة أحزاب المعارضة الرئيسية الأخري للانتخابات وإخفاق الأحزاب الأخري التي شاركت فيها في الفوز بأي مقاعد. أما في انتخابات1995, فقد حصلت أحزاب المعارضة علي13 مقعدا, كان توزيعها: ستة مقاعد للوفد, وخمسة مقاعد للتجمع, ومقعدا واحدا للأحرار, ومقعدا واحدا للناصري. وفي انتخابات2000, حصلت أحزاب المعارضة علي16 مقعدا, كان توزيعها: سبعة مقاعد للوفد, وستة مقاعد للتجمع, ومقعدين للحزب الناصري, ومقعدا واحدا لحزب الأحرار. وفي انتخابات2005, حصلت أحزاب المعارضة علي9 مقاعد, كان توزيعها: الوفد ستة مقاعد والتجمع مقعدين والغد مقعد واحد, بنسبة2.08% من إجمالي مقاعد المجلس, فيما حصل حزب الكرامة تحت التأسيس علي مقعدين( دخلا الانتخابات بصفة مستقلين). والحقيقة أن ما حدث في انتخابات2010 لم يكن بعيدا عما جري في كل الانتخابات الماضية. وكان ذلك راجعا في كل الأحوال إلي عدد من العوامل الواجب أخذها في الاعتبار عند إدراك المفاجأة التي حدثت وهي: تراجع حجم العضوية, فإحدي الظواهر اللافتة للنظر أن معظم الأحزاب السياسية بدأت نشاطها بعد التأسيس بعضوية كبيرة نسبيا, ثم بدأت هذه العضوية في التراجع لأسباب عدة منها القيود المفروضة علي النشاط الجماهيري وغياب التنظيم المحكم الذي يؤدي إلي عدم انتظام صلة الأعضاء بالحزب. ورغم أن الأحزاب تكسب عضوية جديدة من خلال المعارك الانتخابية لمجلس الشعب والمجالس المحلية والنقابات المهنية والعمالية, إلا أنها سرعان ما تخسر هذه العضوية مرة أخري, فضلا عن أن ما تكسبه من عضوية جديدة أقل بكثير في بعض الأحيان مما تفقده من عضوية قديمة. ضعف إعداد قيادات الصف الثاني الجديدة, فتلك الأحزاب تعاني من مشكلة تواصل الأجيال مع بعضها رغم أن العامل الحاسم في جماهيرية أي حزب هو ما يتوافر له من ثروة بشرية متمثلة في قيادات مؤهلة, تتمتع بتأثير حقيقي وسط الجماهير, خاصة في الأقاليم, مما حول تلك الأحزاب إلي نواد سياسية في العاصمة, فغالبيتها لا تملك أطرا تنظيمية أو هياكل حزبية تنتشر في أرجاء مختلفة من البلاد. ولم يهتم أغلبها بعملية إعداد الكوادر والقيادات الجديدة بداخلها. تزايد الانشقاقات الحزبية, حيث غابت الآليات السلمية لاحتواء الخلافات والصراعات وعدم القدرة علي إدارة الاختلاف والتعامل مع التنوع. والأمثلة عديدة منها ما حدث من انشقاقات في حزب الوفد إبان تولي د.نعمان جمعة ومحمود أباظة رئاسة الحزب, وانشقاق مجموعة حمدين صباحي في عام1996 عن الحزب العربي الناصري وتكوين حزب الكرامة تحت التأسيس, وانشقاق حزب الغد إلي جبهتي موسي مصطفي وأيمن نور) علاوة علي الانشقاقات التي حدثت داخل حزب الأحرار, والانشقاقات داخل حزب العمل من جانب التيار الاشتراكي الذي رفض هيمنة التوجه الإسلامي علي الحزب, حتي حزب الجبهة حديث النشأة(2007) لم يسلم من هذه الأمراض. مشكلة تدبير الموارد المالية للأحزاب, وهي واحدة من المعوقات التي تواجه الأحزاب السياسية المدنية. فالقانون يحظر علي الأحزاب أن تمارس نشاطا اقتصاديا وتجاريا إلا في مجال الطباعة والنشر, والمعروف أن أعمال النشر سواء بالنسبة للصحافة أو الكتب لا تحقق عائدا ماليا سواء لارتفاع التكلفة أو لانخفاض معدلات التوزيع, ونتيجة لهذا فإن الأحزاب مطالبة بالاعتماد في مواردها المالية علي اشتراكات الأعضاء وهو مصدر لا يكفي لتحقيق موارد ملائمة للنشاط الحزبي. ويؤثر هذا الوضع علي قدرات الحزب سواء بالنسبة لفتح مقار جديدة في المحافظات والمراكز أو بالنسبة لتغطية تكاليف النشاط اليومي والاتصال الحزبي بين المستويات المختلفة وعقد الاجتماعات الدورية للجان القيادية في المحافظات وعلي المستوي المركزي, وهو ما يؤثر علي قدرة الأحزاب السياسية علي خوض الانتخابات. عامل إضافي يعود إلي الانتخابات الحالية حيث تأخرت الأحزاب المدنية كثيرا في قرار دخول الانتخابات بعد أن أخذت في مداعبة التيارات الهامشية, والتخوف من حسم قضية المقاطعة أو دخول الانتخابات, وفوق ذلك كله أنها بعد أن اتخذت قرارها بالدخول كانت بعيدة تماما عن الواقع عندما اختارت شخصيات مرشحيها وبدلا من الاعتماد علي شخصيات متواجدة داخل دوائرها ومتداخلة مع مشاكلها وأحلامها ظنت أن أسماء كبيرة من الممثلين ولاعبي كرة القدم والشخصيات الشهيرة في أجهزة الإعلام يمكنها أن تجذب أصواتا من مرشحين آخرين ملتصقين بدوائرهم لفترات زمنية طويلة. تنظيم الإخوان المسلمين المحظور كان وحده استثناء من جماعات المعارضة, حيث أحرز التنظيم مكانا متميزا في انتخابات2005 عندما حاز علي20% من المقاعد النيابية. ولكن جماعة2005 لم تكن هي ذات الجماعة في2010 حيث تراجع التيار الإصلاحي وسيطر الجناح المحافظ علي السلطة داخل جماعة الإخوان المسلمين خلال الشهور الماضية, بخلاف الانقسام الحادث داخل الجماعة بشأن ترجيح الخيار المناسب إزاء الانتخابات الحالية: المشاركة أو المقاطعة, فأثر عدم قدرة الجماعة علي الحسم علي موقفها وصورتها لدي الرأي العام المصري. كما أن الجماعة لم تطرح تصورات بديلة للسياسات الحكومية, بحيث تكون قابلة للتنفيذ في مدة زمنية معينة وبواسطة آليات محددة, ولم يطرأ علي برنامجها الانتخابي تغييرات محددة كما لو أن الزمن توقف. أضف إلي ذلك ضعف تأثير نواب الجماعة في مجلس الشعب خلال دور الانعقاد الماضي علي مخرجات العمل التشريعي ومحدودية فاعلية دورهم الرقابي, بل تورط عدد منهم في قضايا تتعلق بالعلاج علي نفقة الدولة. يضاف إلي ذلك كله أن التراجع الجاري في نفوذ الجماعة لا يختلف كثيرا عن ذات التراجع الحادث لذات التيار الديني في السودان ولبنان وفلسطين فضلا عن تصدعه في إيران وعدد من الدول الأخري. والسبب الثاني الذي لم يحسبه أحد هو الحيوية التي دبت في أوصال الحزب الوطني في أعقاب انتخابات عام2005 عندما ظهرت القدرات التنظيمية والفكرية لجماعة الإخوان. وبشكل ما أقام الحزب تنظيما متماسكا تفوق علي تنظيم الإخوان من خلال طاقة الشباب فيه, والاعتماد الكثيف علي تكنولوجيا الاتصال, ودخول الانتخابات ليس من النافذة الكلية لمصر, بل من خلال النافذة الجزئية للدوائر الانتخابية التي جرت دراستها اجتماعيا بعمق شديد. لقد جري استطلاع آراء الناس في كل دائرة أربع مرات علي الأقل, حتي بلغ عدد المبحوثين850 ألف مبحوث عبر فترة قصيرة بطريقة أتاحت قياس نبض كل دائرة ووضع الإستراتيجية والتكتيك الملائم لها.كمااتسم أداء الحزب الوطني بالفعالية في التعامل مع هذه الانتخابات, حيث تم التحضير لها منذ فترة مبكرة من خلال إجراء انتخابات المجمع الانتخابي, وانتخابات الوحدات, لاختيار أفضل العناصر المرشحة, وفي حالة عدم القدرة علي الحسم تم الدفع بأكثر من مرشح ليقول المواطن رأيه: أيهما الأصلح. فضلا عن ذلك, فقد تمت دراسة كل دائرة, والتعرف علي تركيبتها واحتياجاتها ومشكلاتها وهو ما جسدته مجموعات حشد الناخبين وحملات طرق الأبواب وتقديم الخدمات المباشرة, وماتم تخصيصه من أموال للإجراءات السريعة في كل دائرة قبل الانتخابات مباشرة. علاوة علي ذلك, تعلم الحزب من تجارب الانتخابات الماضية جوانب القصور التي جعلته يفقد المقاعد أمام خصومه, سواء كانوا حزبيين أو مستقلين أو إخوانيين, وبدأ يتداركها حتي لا يتكرر حدوثها, وهو ما حدث بالفعل. وربما كان أهم ابتكارات الحزب خلال الانتخابات هو تقديم أكثر من مرشح في دوائر مختلفة, وفي الوقت الذي جري فيه التهكم علي هذه الظاهرة من قبل الفضائيات التليفزيونية, فإن هذا الأسلوب كان في الواقع, ومن خلال الدراسات والاستطلاعات, أداة الحزب لامتصاص قواعد التأييد للخصوم القائمة علي أسس مناطقية وعائلية, ومن ثم السماح لأقوي ممثلي الحزب بالنجاح أو الإعادة مع عضو آخر من الحزب. لقد حقق الحزب الوطني الديمقراطي نجاحا كان مفاجأة بكل المعايير لكل من استهانوا بالحزب وقدراته التنظيمية وشبابه وأعضائه الجدد الذين درسوا واستطلعوا وأجروا انتخابات تمهيدية لم يقم بها حزب أو تنظيم آخر. ولكن النجاح مثله مثل الفشل يمكنه أن يسبب مأزقا كبيرا خاصة عندما يكون كاسحا, فالمسئولية المصرية من الثقل بحيث يستحيل أن يتحملها حزب أو جماعة واحدة تكاد لا تواجهها معارضة ذات بال. ولكن تلك قضية سياسية أخري تحتاج تفكيرا عميقا!. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد