في وقتها تجيء هذه المختارات للشاعر عبده بدوي(7291 5002), لتذكر به وبصوته الشعري, والدور الذي قام به في الحياة الأدبية والأكاديمية علي مدار نصف قرن من الزمان, منذ تخرجه في كلية دار العلوم عام2591, وحصوله علي الماجستير عن رسالته الشعر في السودان وعلي الدكتوراه عن رسالته الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي. أما دواوينه, فقد بدأت بديوانه الأول: شعبي المنتصر, ثم باقة نور, ولا مكان للقمر, وكلمات غضبي, والحب والموت, والسيف والوردة, ودقات فوق الليل, والجرح الأخير, وهجرة شاعر, والغربة والاغتراب والشعر, وشاهد عيان, بالاضافة إلي أوبرا الأرض العالية, والقصيد السيمفوني محمد, وثلاث مسرحيات قصيرة. وبالرغم من اتكاء الشاعر علي ثقافته التراثية, فقد كان شديد الحرص علي الاندماج في تيار الحداثة الشعرية, والجمع بين الشكلين العمودي والحر في معظم دواوينه, وتمثل روح القصيدة الشعرية التي استقرت عليها حركة التحديد الشعرية في العقود الأخيرة من القرن العشرين, وهو الأمر الذي جعل كثيرا من الكتابات النقدية تتناول إبداعاته بالدراسة والتحليل, بدءا بالدكتور محمد مندور والدكتور زكي نجيب محمود ومصطفي عبداللطيف السحرتي, وانتهاء بنازك الملائكة والدكتور أحمد كمال زكي. وعندما يسأل صاحبنا نفسه في تقديمه لديوانه الجرح الأخير: وأنت ماذا قدمت للشعر؟ يجيب بقوله: أنا واحد من أفراد قبيلة الشعر, لا أدعي علي أفرادها زيادة أو نقصانا, وحسبي أنني تعاملت مع مقومات الشعر الأصيلة, ولم أضرب في المجهول. وأنني في الوقت نفسه كنت صوت نفسي وعصري, بالاضافة إلي صوت الانسان المظلوم, وإلي التعامل مع الأشكال الجديدة في العربية كالأوبرا والقصيد السيمفوني, ولقد كنت في دواوييني السابقة أحاول بقدر الامكان أن أفرق بين الشكلين اللذين أكتب بهما كنوع من تنظيم الموسيقي, ولكنني في هذا الديوان مزجت بين الشكلين, وقد كان من همي في الفترة الأخيرة تنظيم صوت الموسيقي, لإعطاء دور لبعض عناصر الشعر التي كانت معطلة, وليكون هناك صدق من عالم النفس الداخلي, وعن عالم الحياة في الخارج, وعن عالم القصيدة قبل هذا كله. وأخيرا فقد بقي أن أقول إن الشعر أهلكني ولم أهلكه, ولم يعد هناك مناص من الترجل عن هذا الجواد المتقد الحوافز والعينين, فإنه يبدو أن هذا الجرح هو الجرح الأخير. ونحن مدينون لابن الشاعر, التلفزيوني اللامع محمد عبده بدوي بعمل هذه المختارات, من الدواوين العشرة التي أصدرها الشاعر, وقد صدرت عن المجلس الأعلي للثقافة في مستهل هذا الشهر, وجعلتنا كما قلت نتذكر الشاعر وشعره, الذي كان محورا لنشاط أدبي لا يهدأ, أستاذا للدراسات الأدبية في جامعات عين شمس, وأم درمان, والامارات, والكويت, ومديرا لتحرير مجلتي نهضة إفريقيا والرسالة الجديدة, ورئيسا لتحرير مجلة الشعر طيلة اثني عشر عاما, بالاضافة إلي كتبه عن إفريقيا, ودراساته الأدبية والنقدية. وقد فاز بجائزة جامعة عين شمس عن كتابه: أبو تمام وقضية التجديد في الشعر العربي, وجائزة مؤسسة يماني الثقافية عن ديوانه دقات فوق الليل, وجائزة الدولة في الشعر. يقول عبده بدوي في قصيدة عنوانها مخاطرة: قلت: ماذا لو خرجت الآن من جسمي العليل ذلك المنساب في هذا السرير المستحيل فهو قد صار ضعيفا, مستباحا وهو قد صار أنينا وجراحا! *** قلت: أجفوه, لأعدو بين وردة كلما مدت جناحا أو أراني لابسا جسم الفراشة حينما تجتاز ساحا أو أراني في غزال تحت دوحة مد عنقا واستراحا! *** قلت: أعدو بين ذئبين استراحا غير أني خفت من بطشهما عند الحلول وتولاني الذهول وتوقعت الصياحا فتعجلت الرواحا! *** ثم إني حينما عدت حزينا لسريري لم أجد جسمي المسجي, أين راحا؟ يا تري ماذا سيفعل؟ كل من يبغي النواحا كل من أمسك سرا في عياء, ثم باحا أيها الموغل في ليل المنايا عم صباحا عم صباحا ويقول هاتفا من السودان, متغنيا بما يربط بين شعبي وادي النيل: بلادي, يا روابي الماس, طافية علي النهر علي أبوابك القمراء تورق دوحة السمر وليلك ملعب نجري, ونقذف فيه بالقمر وتحت ظلالك الوطفاء أطفال من الزهر وشعب شامخ التاريخ, منحوت من القدر يمس بكفه البيضاء في رفق علي البشر فيعتنق السلام الأخضر المهتز في الشجر! وهو هتاف يذكرنا بعد طول نسيان بالمعني الذي عاش له عبده بدوي, وجعله موضعا أثيرا بين دراساته, وملهما دائما لأشعاره, عن الوطن والوادي والانسان.