انزعج جدا الدكتور نبيل فتح الله الأستاذ بهندسة الأزهر من تعليقات بعض القراء إلكترونيا علي مقالي الماضي بعنوان' أرقام مخيفة جدا', إذ وجد فيها هجوما ضاريا غير مبررعلي شخصي الضعيف..وكتب محرضا علي' أدب الحوار' الذي لا يفسد للود قضية في خلاف الرأي.. وكانت الأرقام المخيفة المنشورة ترصد ما أضافه علماء ومفكرون واقتصاديون وأطباء وفنانون يهود من أعمال عظيمة إلي الحضارة الإنسانية في القرنين التاسع عشر والعشرين, مقابل ما صنعه المسلمون الذين يفوق تعدادهم المليار ونصف المليار نسمة..وكان الفارق شاسعا ورهيبا..أو بمعني أصح لم يكن هناك أي وجه للمقارنة أصلا.. ناهيك أن حال المسلمين في عشرات الدول ذات الأغلبية المسلمة لا يسر عدوا ولا حبيبا, فقر وجهل وأمية وتواكل وضعف اقتصادي وحروب أهلية وحريات مهضومة وحقوق إنسان ضائعة وأزمات طائفية..كل هذا مغلف بتشنج ديني زاعق! وقد لا نستطيع أن نصلح حال المسلمين في جميع أرجاء المعمورة, لكن علي الأقل علينا أن ننشغل بمصر وننتشلها من محيط التخلف المالح وندفع بها إلي نهر الحضارة العذب! وقلت: هل يمكن للمصريين المسلمين أن يتوقفوا لحظة أو ساعة أو يوما أو سنة ويتأملوا حياتهم ويسألوا أنفسهم: ما أكثر الأشياء التي تشغلهم في الحياة؟!, ما الذي يسيطر علي أفكارهم ويعشش في أدمغتهم ويوجه تصرفاتهم العامة والخاصة؟! ويبدو أن التساؤل لم يعجب البعض..وظنوا أن المقال هجوم مستتر علي الإسلام, مع أنني لم أسطر كلمة واحدة لا مع الدين ولا ضده.. كان الهدف أن يبحثوا عن الأسباب بأنفسهم ولا ينتظرون شيخا أو داعيا أو واعظا أو مفتيا يأخذ بأيديهم إلي الإجابات الضرورية, فالأسباب في تصوري- تشبه الطفيليات الشرسة- كامنة في جزء غير قليل من ثقافة المسلمين المتوارثة سواء الحديثة أو في الكتب القديمة التي ينقولون منها مباشرة نقلا حرفيا دون تمحيص أو تفكير أو تحليل, كما لو أنهم يتعاملون مع كتب مقدسة أو أن الذين كتبوها أو فسروها هم' منزلون من السماء' ولا ينطقون عن الهوي.. وهذه الثقافة استولت علي العقل واغلقته بالضبة والمفتاح علي نفسها, وحولته إلي' حصن' يصد كل رياح الحداثة والتطور, متوهما أنه بذلك' يحافظ' علي هويته وشخصيته المتفردة من الذوبان والتلاشي في الثقافة الحديثة المنحلة, فينقلب أدبه إلي قلة أدب, وتنحرف عفته إلي الإباحية, وتفسد مكارم الأخلاق التي يتمسك بها إلي عفونة كالتي تحدث في الغرب المتحرر' عديم القيم والأخلاق'! بل إن نفرا كبيرا من الذين تعلموا وخرجوا ودرسوا وراحوا وجاءوا لم يستيطعوا إخراج عقولهم من' حصن' الماضي الذهبي إلا في اللحظات أو الأوقات التي يحتاجون فيها' استخدام' المعارف الحديثة التي تعلموها, ثم يفرون بها عائدين إلي الكهف..وهم يتصورون أنهم يجمعون بين الحسنيين: معارف العصر' المتغيرة الخاضعة للتمحيص والدهشة' التي تفتح لهم أبواب الدنيا..ومعارف الماضي' المنقولة حرفيا دون تفكير' التي تفتح لهم أبواب الجنة..دون أن ينتبهوا إلي أن معارف الماضي تضيق الخناق علي معارف العصر وتحصرها فلا تستطيع أن تبدل حياتهم تبديلا جميلا رائعا..ليتمتعوا بحرية في التفكير والتدبير والتصرف تطلق عقولهم من أسرها إلي آفاق قادرة علي الابتكار والإبداع وهما عنصران لازمان لأي تطور حضاري, عنصران عمل بهما المسلمون طويلا منذ عصر عمر بن الخطاب حتي منتصف الدولة العباسية, وحين تخلوا عنهما واستقروا علي شواطئ الثقافة المنقولة فقط, سقطت الدولة العباسية تحت سنابك خيول المغول بسهولة شديدة. باختصار اخترع المسلمون' كهنوتا شعبيا' من رجال الدين والموروثات القديمة التي ليس فيها من صحيح الإسلام لا كثير ولا قليل, فخلقوا' حالة عامة' كالتي عاش فيها الأوروبيون المسيحيون في القرون الوسطي تماما, وكما كان رجال الكهنوت في تلك العصور يكنزون الذهب والفضة ويتمتعون بالسطوة والقوة ويغرفون الأموال من البسطاء والاغنياء, باسم السماء ومن أجل الحفاظ علي تعاليمها ضد' العقول الجديدة والأفكار الجديدة' التي تريد أن تخرب المسيحية وتفسد روح المسيحية.. والمسلمون يعيشون نفس الحالة الآن باسم' الصحوة الإسلامية'.. وقبل أن يتصور احد أنني أدعو إلي هجر الدين وتركه إلي علوم العصر, أقسم أمام الله بأن هذا ليس مقصدا ولا يمكن أن أنادي به, فالحياة دون تدين فيها كثير من القبح والشر, لكن ثمة فارقا بين التدين والتديين, التدين عقل والتديين انفعال, التدين وعي, والتديين عماء.. التدين جوهر وعمل وسلوك, التديين شكل ومظاهر وطقوس فارغة من معانينا الراشدة..التدين حقوق وواجبات لي وللآخرين أيا كانت ديانتهم وألوانهم وأجناسهم, التديين حقوق وواجبات لي أولا وعلي الآخرين ان يتفهوا ذلك ويقبلوه بالحسني أو يرضخوا له بالقوة. وبدلا من أن يفكر البعض في أسباب الحالة التي عليها المسلمون, من خلال مراقبة حياته والأشياء التي يهتم بها ويكاد يغرق فيها, دون أن أنكر أن الأسباب السياسية تلعب دورا حيويا, مثل نظام الدولة وقدرته علي إدارة حياة الناس بكفاءة, ومستوي العدالة والحقوق الإنسانية فيها: اقتصاديا واجتماعيا..الخ, مع ملاحظة أن دولا إسلامية تتمتع بنظم أكثر ديمقراطية من غيرها لعشرات السنين إلا أنها لم تخرج تماما من' قبضة التخلف' أو لم تتمكن من صناعة مجتمع يرقي إلي مستوي اليابان مثلا التي لم تلق وراء ظهرها' خصوصيتها أو تفردها', وإنما مزجت بينهما وعاشت عليه مع ما تعلمته من العصر..فالتحديث لا يعني التشويه.. والسبب هو حالة الكهنوت الشعبي.. بينما الإسلام دعوة لاستخدام العقل, وتحريض علي التفكير العلمي المنظم, وتمرد علي الكهنوت, فالرسالة موجهة من الله عبر رسوله الكريم لكل البشر أجمعين, ولم يخص بها العلماء ورجال الدين باعتبارهم الاكثر علما ومعرفة لينقلوها إلي الناس, فالبشر سواسية أمام الله, العالم والجاهل, فالجاهل مسئول عن جهله وليس عما يقال له من دعاة الفضائيات وأئمة المساجد أو سماسرة الفتاوي, فالمسئولية في الإسلام فردية تماما, والحلال بين والحرام بين, وكل مسلم' ممسوك من عرقوبه' كما يقول المثل الشعبي, وكل امرئ معه كتابه بيمينه وليس شيخه ولا مفتيه ولا داعيته! وفي النهاية..من أنفسكم يولي عليكم.