في كل مناقشتي مع المسئولين الجنوبيين عن الانفصال لا يكاد يخلو الحديث عن أن الرغبة في الانفصال في الجنوب يقابلها نفس الرغبة في الشمال وجميعهم يدللون علي ذلك بجريدة الانتباهه والتي يرأس تحريرها الدكتور الطيب مصطفي خال الرئيس عمر البشير, فأتيم جارانج نائب رئيس المجلس الوطني يقول ما يكتبه الطيب مصطفي لا يؤجج مشاعر الشماليين ضد الجنوب فحسب وإنما يمثل دافعا قويا لشبابنا للتمسك بالانفصال وعندما كنت أبدي اعتراضي علي فكرة تحميل الجريدة المسئولية بهذا الحجم كان الرد يأتيني أن الجريدة تجعل الخلاف التاريخي بين الشمال والجنوب ماثلا طوال الوقت في الأذهان, هذا الخلاف الذي تسبب في إراقة دماء الملايين علي مر الحروب الثلاث بين الشمال والجنوب. في حديثي مع أتيم جارانج نائب رئيس المجلس الوطني والقيادي في الحركة الشعبية قال لي هناك في الشمال تيار انفصالي يقوده الطيب مصطفي وهو كما هو معروف خال الرئيس عمر البشير وهو كان رئيس التليفزيون السوداني أثناء الحرب ومنذ خمس سنوات قام بعمل جريدة الانتباهه والتي تشجع علي الانفصال وهو يعبر عن قطاع كبير من شمال السودان, كما أن عددا من الكتاب الذين يساندونه هم من العسكريين القدامي مما يعني أن الانفصال يلقي تأييدا من داخل الجيش, ولقد استجاب له في الجنوب الشباب بالذات وتأثروا بآرائه علي أساس أن البلد لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل ولابد أن يكون هناك دولتان منفصلتان. وبالتالي فإنك ستجدين أن الذين خرجوا في جوبا لمسيرة سلمية تطالب بالانفصال كلهم شباب متعلمون. قلت له ألا تري أنه من الصعب إلقاء مسئولية رغبة الجنوبيين للانفصال علي جريدة حتي ولو كان يرأس تحريرها خال الرئيس ؟ أجاب قائلا: ولما لا فجريدة الانتباهه تحمل نفس اسم صحيفة كانت تصدر في رواندا بنفس المعني لو اطلعت علي المجزرة التي تمت في رواندا فستعلمين أن الصحافة كان لها دور عظيم بها. وكذلك الراديو والتليفزيون, وعندما كنت في لقاء مع نقابة المحامين السودانيين وسألتهم أنتم تقولون اليوم إن الدعوة إلي الانفصال هو عمل غير دستوري أين كنتم خلال خمس سنوات عندما سمحتم لصحيفة تنادي منذ خمس سنوات بانفصال عنصري وليس انفصالا سياسيا. أما مارتن ماجوت سكرتير عام التنظيمات الشعبية في الحركة الشعبية فيقول والدكتور الطيب مصطفي هو أحد مؤسسي منبر السلام العادل الذي يعقد ندوات في الجامعات, ويدعو الطلاب إلي تبني فكرة الانفصال, كما أن هناك إعلانا صغيرا يوميا في الصحيفة يقول إلي كل طالب وطالبة, انضمامك إلي منبر السلام العادل يعني الدفاع عن هويتك ومستقبل أمتك, حاولت أن التقي بالدكتور الطيب مصطفي أثناء زياراتي للسودان ولكنني لم أتلق ردا علي مكالماتي أو رسائلي له وعلمت من أحد الزملاء أنه ربما كان مسافرا آنذاك ومع محاولة إطلاعي علي الجريدة طيلة وجودي في السودان أو عن طريق الإنترنت وبالفعل قرأت العديد من المقالات التي تشجع علي الانفصال وقرأت أيضا العديد من المقالات التي تهاجم مصر والحقيقة أن وجود صحيفة تكتب بهذا الأسلوب ليس غريبا ولكن المستغرب هو علاقة القرابة بين رئيس تحريرها والرئيس البشير الذي يطالب ولاشك بالوحدة, ما لفت انتباهي في بعض المقالات التركيز علي البعد التاريخي للصراع باعتباره أصل المشكلة والتي أدت إلي الحروب والرغبة في الانفصال. ولخص لي أحد الذين كانوا يشغلون مركزا مرموقا في الخارجية السودانية قائلا: الجنوبيون لا ينسون أن كثيرا من الشماليين كانوا يتاجرون فيهم ويستخدمونهم كرقيق. وكذلك هناك كثير من الشماليين لا ينسون ذلك ولديهم نظرة استعلائية ضد الجنوب. الرق هو أصل القضية والحقيقة أنني أردت أن ارسم صورة واضحة عن أصل الصراع بعيدا عن التحيز لجانب علي الآخر ففتشت فيما كتبه المؤرخون العرب والأجانب والسودانيون شماليين وجنوبيين وحتي بعضا من الوثائق الأمريكية عن السودان والتي كشف عنها منذ عدة سنوات, ومن أهم المراجع التي تعطينا فكرة عن الأبعاد التاريخية لقضية الصراع في السودان كتاب الدكتور نعوم شقير الموسوعي( تاريخ السودان) والذي ألفه في بدايات القرن الماضي ومن خلاله نتعرف علي أنه منذ آلاف السنين كان كل ما هو جنوب مصر ووصولا حتي دولة أثيوبيا الحالية وحتي جزء من اليمن كان يطلق عليها إثيوبيا وهي كلمة تعني باللاتينية الوجه المحترق وأنه رغم عدم وجود كيان منفصل للسودان فإن التاريخ يشهد أن أرض السودان الحالية وهبت العالم حضارات عظيمة مثل حضارة مملكة كوش ومملكة مروي, وعندما بدأت القبائل العربية تتواجد في شمال السودان فكان هذا يؤدي إلي نزوح القبائل الأصلية جنوبا وخصوصا مع انتشار تجارة الرقيق حيث كان عاديا, وبحسب كتاب الدكتور شقير أن من يمتلك أبسط الناس حالا في الشمال عبدا من الجنوب ولكن( وبحسب كلامه) ينبغي ألا نغفل أن تجارة الرقيق كانت تجارة كونية رائجة في العالم. مصر تحارب الرق في السودان والحقيقة التي يذكرها الدكتور شقير تؤكد أنه بالرغم من أن إنجلترا كانت من أوائل الدول التي تصدت لتلك الظاهرة عام1787 فإن الخديوي محمد علي بعدما قام بحملته لاكتشاف منابع النيل ومع بدء فترة حكمه للسودان عام1821 ثم زيارته لها عام1839 بدأ يعلن محاربته للرق ثم كان الخديوي إسماعيل باشا هو أول من أمر بتعقب تجار الرقيق والقبض عليهم ومنعهم من الاستمرار في تلك التجارة عام1863 حتي صدرت الاتفاقية الدولية لمنع الرق ببروكسل عام1890 ووقعت عليها كل الدول ولكن لم يعني هذا توقف الاسترقاق فبعد أن نجحت الثورة المهدية والتي ساندها عدد كبير من قبائل الجنوب وانتصر فيها المهدي سنة1885 علي الحكم المصري وبدأ عدد من قبائل الجنوب يدخل للإسلام عادت تجارة الرقيق في عهد الخليفة عبد الله التعايشي خليفة المهدي والذي كانت حكومته من أسوأ حكومات القرن التاسع عشر حيث كان الرقيق مصدرا كبيرا لاقتصاد حكومة الخليفة, وربما يكون هذا هو السبب الرئيسي في تولد مشاعر التوجس والمرارة نحو كل ما هو عربي خصوصا أن غارات تجار الرقيق لم تتوقف في الجنوب إلا منذ ما يزيد عن مائة عام بقليل. هل الرق إذن هو سبب تلك المشاعر والرغبة العارمة في الانفصال والتي كبدت الجنوب في الحروب ملايين القتلي والنازحين ؟ بسب الوثائق الأمريكية أنه كان مجرد البذرة التي نمت بعد ذلك في ظل العزلة التي اتبعتها إنجلترا لمدة نصف قرن بين الشمال والجنوب ثم وجدت بعد ذلك المناخ الذي يسمح بتكاثرها في ظل سياسة التهميش والقهر الثقافي من خلال التمييز ضد كل ما غير عربي شمالي والإحساس بالظلم بسبب الإهمال للتنمية في الجنوب وخصوصا بعد استقلال السودان وتولي إداريون شماليون حكم الجنوب. فعندما بدأت فترة الحكم الانجليزي- المصري للسودان عام1898 أعطت إنجلترا لمصر إدارة الشمال وبدأت منذ عام1920 بعمل سياسة المناطق المغلقة والعزل التام بين الشمال والجنوب وكانت الحجة آنذاك منع انتشار الأمراض في الشمال وخصوصا الملاريا والكوليرا. ونعود لما قاله الدكتور ريك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب الحالي وهو يشرح قضية جنوب السودان ويصفها بأنها تاريخ من الهيمنة السياسية ويقول في عام1920 صدر قانون المناطق المغلقة والذي كان يلزم الشماليين دخول الجنوب بجواز سفر وتصريح لمن يريد التجارة حتي من الشماليين وفي عام1928 اعتمدت اللغة الإنجليزية كلغة رسمية بجانب اللغات المحلية ومنعت استخدام العربية في التعليم وبلغ من الأمر أن حكام جنوب السودان من المستعمرين كانوا يعقدون المؤتمرات الخاصة بهم في دول في شرق أفريقيا بدلا من الخرطوم وبحسب ما ذكره د.مشار فإن المجلس الاستشاري الذي أعدته إنجلترا للشمال ليكون لها حكم ذاتي عام1943 لم يكن يضم سوي ولايات الشمال علي اعتبار أن نفس الأمر سيحدث للجنوب, لكنه وكما قال الأمر أختتم بخيانة في مؤتمر جوبا عام1947 بالموافقة علي تسليم الجنوب لاستعماريين جدد هم الشماليون, وذلك بحسب وصفه وذلك بحجة أن الجنوب غير مستعد بعد ليكون دولة وبحسب رأيه كان ينبغي أن تسلم إنجلتراجنوب السودان لهيئة دولية كالأمم المتحدة وأن عدم قيامها بذلك كبد الجنوبيين ملايين الأرواح في الحروب العديدة التي حدثت فيما بعد بسبب سياسة منع الجنوبيين من شغل بعض المناصب الدستورية الهامة وتهميش الجنوب من خلال التمييز, وكذلك إهمال تنمية جنوب السودان اجتماعيا واقتصاديا في حين كانت جميع المشاريع الاجتماعية والتنمية الاقتصادية تتم في شمال السودان. أيضا كان هناك القهر الثقافي, من خلال فرض الثقافة العربية والقيم الإسلامية علي شعب جنوب السودان في محاولة متعمدة لمحو انتماء ثقافتهم لإفريقيا, وزاد الأمر سوءا عندما اعتبرت السودان نفسها دولة أسلامية وهبط هذا بشعب الجنوب لمواطنين من الدرجة الثالثة, وخصوصا مع فرض الشريعة الإسلامية والقوانين الدينية والثقافية الإسلامية علي الجنوب والذي لديه قيمه وثقافته الخاصة مما يعني إنكار المواطنة التي ينبغي أن تكون أساسا للوحدة الوطنية, والمساواة والعدالة الاجتماعية في دولة غير متجانسة مثل السودان. ولكن ماذا بعد إذا ما قرر الجنوب الانفصال؟ هل تراه يمتلك مقومات قيام الدولة المستقلة؟ وماهي أهم الصعاب التي تعترض ذلك؟ وما هي القوي الداخلية والخارجية التي تشجع الانفصال؟ وهل الانفصال سيتم بطريقة سلمية ووفقا لاتفاق السلام يمكن للجنوب أن يعلن استقلاله من جانب واحد؟ ومامدي تأثير الانفصال علي أمن مصر القومي؟ في الحلقة القادمة سنتعرف علي ذلك.