ألقي إعلان الحزب الوطني الديمقراطي عن قائمة مرشحيه للانتخابات التشريعية دلوا من الماء المثلج فوق رءوس الذين روجوا خلال الشهور القليلة الماضية لحديث الصفقات بين الحزب وبين أحزاب المعارضة الرئيسية. وزعموا بأن هناك اتفاقا بين الطرفين علي أن يمنح الحزب الحاكم كلا منها, عددا من مقاعد مجلس الشعب المقبل, لا يزيد في مجموعه عن عدد المقاعد التي كان يشغلها نواب جماعة الإخوان المسلمين, باعتبار أن نواب هذه الأحزاب ينتمون بعكس نواب الجماعة إلي فصيلة المعارضة المستأنسة, فجاء الإعلان عن قائمة مرشحي الحزب الوطني, ليبرهن عن أن هؤلاء كانوا يستقون أخبارهم ويستلهمون تحليلاتهم عن هذه الصفقات الموهومة, ممن كان الرئيس السادات يصفهم بأنهم باعة البطاطا الذين لا يعرفون شيئا من أسرار الساسة والسياسة! ولم يكن الأمر يتطلب انتظار إعلان قائمة مرشحي الوطني, لكي تتضح هذه الحقيقة, فكل الذين لديهم أدني إلمام بالمناخ الذي تجري فيه الانتخابات المصرية, يعرفون أن صفقة من هذا النوع, مستحيلة من الناحية العملية المحضة, ليس فقط بسبب رفض الحزب الوطني المستمر لإخلاء بعض الدوائر أو المقاعد لأحزاب المعارضة, لضمان تركيب متوازن نسبيا للمجلس التشريعي ينهي قانون التقسيم الدائم لهذه المجالس بين أغلبية كاسحة وأقلية كسيحة.. ولكن كذلك لأن السوابق تؤكد ذلك, ولأن الحزب الوطني استبق حديث الصفقات بالإعلان عن أنه سيخوض انتخابات2010 في كل الدوائر.. وعلي كل المقاعد. وبهذا الإعلان انصرف مفهوم الصفقة التي يروج لها باعة البطاطا إلي أنها صفقة سرية للغاية, عقدها قادة الحزب الوطني, مع قادة هذه الأحزاب, من خلف ظهر الجميع, بمن في ذلك أعضاء وقيادات الأحزاب الذين شاركوا في التعاقد, وهو اتفاق لا يمكن تنفيذه, في ضوء إصرار الحزب الحاكم علي أن يخوض الانتخابات في كل الدوائر وعلي كل المقاعد إلا في حالة واحدة, هي أن يدفع الحزب الحاكم ببعض مرشحيه, لكي يخوضوا الانتخابات في الدوائر التي تشملها الصفقة, ثم يصدر تعليمات لابد وأن تكون سرية للغاية وجدا جدا إلي أنصاره, بأن يعطوا أصواتهم لمرشح المعارضة الذي ينافسه, أو يصدر هذه التعليمات إلي الأجهزة الإدارية, بأن تعمل علي إسقاط مرشح الحزب لصالح المرشح المعارض الذي شملته الصفقة, وهي خطة لئيمة لا يتمكن أن يضعها, أو يتخيل أنها ممكنة التنفيذ, إلا المفتش كرومبو.. أو شخص أدمن قراءة سلسلة الشياطين الثلاثة وغيرها من القصص البوليسية التي تكتب للأطفال والمراهقين. أما السبب فلأن أحدا لا يستطيع أن يضمن أن أعضاء الحزب الوطني الذين ستصلهم هذه التعليمات السرية, بانتخاب مرشح المعارضة, سوف ينفذونها, خاصة أن الالتزام الحزبي ليس من الفضائل المعروفة عن كثير من أعضاء الحزب الحاكم, ولأن أحدا لا يستطيع أن يضمن كتمان سر بهذا الحجم, بين مجتمع الناخبين الذي يضم عشرات الآلاف من المواطنين في كل دائرة, في مناخ المعركة الانتخابية الذي يتسم بإطلاق الشائعات بمناسبة ومن دون مناسبة, والأهم من هذا وذاك أن مرشح الحزب الحاكم لن يقبل بداهة, أن يخوض الانتخابات وينفق علي الدعاية الانتخابية, ليكون مجرد ساتر لصفقة أبرمها الحزب من وراء ظهره, مع منافسه, ولأنه صاحب مصلحة مباشرة وشخصية, فسوف يسعي بكل جهده لإفشال الصفقة, ويتصدي لكل المحاولات الإدارية لإتمامها, تطبيقا لقاعدة جحا أولي بلحم ثوره ومرشح الوطني أولي بالدائرة مهما كانت الصفقات التي وقعها المفتش كرومبو من خلف ظهر الجميع. وجاء إعلان الحزب الوطني عن قائمة مرشحيه, ليدمر ما تبقي من المنطق الهزلي الذي استند إليه باعة البطاطا في الترويج لحديث الصفقات, إذ لم يستطع الحزب أن يلزم الراغبين من أعضائه في الترشح, بقبول قاعدة مرشح واحد عن كل مقعد, واضطره التنافس الشديد بين أعضائه علي الترشيح, إلي الدفع بمرشحين وأحيانا ثلاثة وأربعة, علي المقعد الواحد, ولا يزال يعاني من التهديدات بالويل والثبور التي يوجهها إليه الراغبون في الترشيح, الذين لم يصبهم الدور, بأن يناصروا المرشحين المعارضين, ضد الذين أصابهم الدور من مرشحي حزبهم.. وهو شاهد جديد, يؤكد أن أحدا من قادة الحزب الوطني حتي لو كان المفتش كرومبو ذات نفسه لم يكن يستطيع أن يعقد صفقة يتنازل بمقتضاها عن أي مقعد من المقاعد, لصالح أي حزب من أحزاب المعارضة, ولديه هذا العدد الكبير من المرشحين الذي يفيض عن حاجته, ويكفي لتشكيل برلمانات كل دول المنطقة. والحقيقة أن الذين روجوا لشائعة الصفقات, ومعظمهم من المنتمين إلي ما يعرف بالحركات الاحتجاجية الجديدة يكررون الخطأ نفسه الذي وقعوا فيه, أثناء انتخابات2005 حين ركزوا نشاطهم الدعائي في الهجوم علي الأحزاب, من دون تمييز بين الحزب الحاكم الذي يعارضونه, وبين أحزاب المعارضة التي تقف معهم في الخندق نفسه, بدعوي أن هذه الأحزاب هي مجرد معارضة مستأنسة, تعاني من الانشقاقات, وتعيش علي صفقات سرية تعقدها مع الحزب الحاكم, ولم تعد قادرة علي المساهمة في دفع النظام السياسي المصري إلي مزيد من الديمقراطية, وهو خطاب ساهم في عدم حماس الناخبين المعارضين لسياسات الحزب الوطني لانتخاب مرشحي أحزاب المعارضة, لكن أصوات هؤلاء المعارضين لم تنصرف عن أحزاب المعارضة لتذهب إلي مرشحي هذه الحركات, لأنها لم تخض الانتخابات, ولم يكن لديها أحد يصلح للترشيح في ظل المواصفات الخاصة للمرشح في البيئة الانتخابية المصرية, بل ذهبت إلي جماعة الإخوان المسلمين, التي تتبني مشروعا لا صلة له بالديمقراطية من قريب أو بعيد! حتي يكون أصحابه قادرين أو راغبين في دفع النظام المصري إلي مزيد من الديمقراطية. وهذا هو الخطأ الذي أتمني ألا يكرره هذه المرة الذين روجوا لحديث الصفقات, حتي لا يكونوا كالرجل الذي أراد أن يغيظ زوجته النكدية فجدع أنفه! المزيد من مقالات صلاح عيسى