انا الابن الأكبر لكاتب رسالة حصاد السنين التي نشرتها في بريد السبت الماضي والذي تحدث إليك فيها عن قسوته علي ابنائه وظلمه لهم, ومردود ما فعله معهم عليه في كبره حتي انه عندما زارنا بعد غياب طويل لم أعرفه وناديت زوج والدتي امامه بكلمة بابا, وقال لك ان زوج امي اهتز لحاله وما وصل إليه بينما انا ظللت متماسكا ولم يلن لي جانب.. وقرأت ردك عليه, وكان كافيا ليثلج صدري ويخرج مابداخلي من كبت وقهر طوال سنوات عمري. فأنا طبيب في احد المستشفيات الحكومية, واستعد لافتتاح عيادة خاصة في بلدتي, وتسير احوالي المادية علي مايرام, وكنت احيا حياة مستقرة حتي زارني ابي الذي لم اعرفه يوما أو اتذكر عنه شيئا, فلقد تفتحت عيناي علي زوج امي, ووجدتني اناديه بابا برغم علمي انني لست من صلبه, فيكفيه انه آواني أنا وشقيقي ووالدتي, ولم يلق بنا في الشارع كما فعل ابي سامحه الله الذي تخلي عنا وانغمس في حياة اللهو والسهر والانسياق وراء ملذاته ونزواته مع سيدة أخري تعرف عليها وتزوجها وانجب منها اختين لنا لم نرهما حتي الآن ولانعرف عنهما شيئا.. وقد سايرته زوجته وبنتاها حتي حصلن منه علي كل شيء ثم نبذنه من حياتهن. ولك ان تتصور حالة هذه الاسرة المفككة الغريبة في كل شيء.. ان والدي لم يفكر يوما في ان نتعرف علي اختينا, ولا ان يجمع شملنا, وكثيرا ما جلست إلي نفسي متسائلا: إلي متي يستمر هذا الوضع الغريب الذي لم ار له مثيلا من قبل, فقد يعرف الفرد منا اخوته ولكن لايزورهم ولايتعامل معهم لاسباب أو لأخري.. أما انه لايعرف اخوته من الاساس فهو الجرم بعينه.. نعم الجرم الذي لايتصوره احد, ولا اعرف كيف أعالج هذه المشكلة حتي الآن, ولا كيف سأجد اختي وماذا فعلت بهما أمهما إن كانت حقا ممن لا هم لهن إلا السهر والرحلات.. فنحن تربينا علي الفضيلة, وكان زوج أمي أكثر من أب لنا, ولذلك نشأنا نشأة طيبة ونحن سعداء بما نحن فيه, لدرجة أن أخي الذي يليني في السن وهو مهندس الآن لم يكن يعلم انه ليس أبانا, وعندما عرف الحقيقة زاد تمسكه بأبوته لدرجة أننا لا نفارقه أبدا ونعيش معه في المنزل نفسه. صدقني ياسيدي إنني لم أشعر بأبي حين زارنا, ولذلك قابلته بجفاء, وبعد خروجه من منزلنا انخرطت في بكاء مرير, واستعدت شريط الذكريات المؤلمة, وما فعله بنا طوال السنوات العجاف. وأجدني الآن في حيرة ماذا أفعل؟.. هل أظل علي ما أنا سائر فيه وهذا حقي؟.. وهل أبحث عن اختي, ولكن ماذا أفعل لو وجدتهما يسلكان سلوكا لا أرضي عنه؟.. وبماذا تنصحني تجاه والدي الذي لاحظت التأثر الشديد عليه, ومازالت صورته في مخيلتي, وهو يغادر بيتنا منكسرا حزينا علي ما آلت إليه أحواله.. هل أكتفي بزيارته في دار المسنين؟.. وما هو الحل المناسب لهذه الأسرة المفككة؟ * أكبر جريمة ارتكبها أبوك في حقكم هي أنه لم يمد جسور التواصل بينكم.. أنت وشقيقك من جانب, وأختيك منه من جانب آخر.. إذ لايعقل أبدا أن تكونوا في هذه السن, ولم تلتقوا مرة واحدة, ولا أدري كيف وصلت به الأنانية إلي هذا الحد.. فأي أب حتي وإن كان غارقا في اللهو والعبث, لابد أن يكون حريصا علي لقاء أولاده, وترتيب زيارات لهم للتعارف والتقارب مع مرور الوقت. من هنا فإن الخطوة الأولي التي ينبغي أن تفكر فيها بجدية هي الوصول إلي أختيك واللقاء معهما في وجود أبيكم, وليتولي هذه المهمة زوج والدتك وهو رجل فاضل لمست فيه الجدية والصدق عندما حثك علي لقاء أبيك والترحيب به برغم كل ما فعله معكم.. فليس أقسي علي الانسان من انصراف أهله عنه, فما بالك بأختيك اللتين تقع عليك مسئوليتهما بعد أبيك. إنني أقدر الظروف التي تعيشها والأهوال التي تعرضت لها. ولكن لاتنس أن جائزتك علي أفعالك الطيبة وحسن نياتك سوف تأتيك من الله سبحانه وتعالي.. وعليك أن تصبر علي أختيك إن وجدت منهما نفورا أو مظاهر سلوكية لم تعتدها بحكم طريقة تربيتهما وإنجرافهما لأمهما التي أوقعت والدك في حبالها, فأكلته لحما ثم رمته عظما. نعم اصبر عليهما وحاول تقويمهما بالهدوء, وليكن والدك معكم دائما من الآن فصاعدا, عسي أن يكفر عما فعله بكم, ويحاول رأب الصدع الذي تسبب فيه منذ البداية. أما زوج والدتك الذي تعتبره أباك الحقيقي فهو يستحق كل تقدير وأراه مثالا لمن حباه الله بالهدي والتقوي, وجعل سعادته في خدمة الآخرين. وأخيرا أحيي فيك حرصك علي ترابط أسرتك والبحث عن أختيك ليجتمع الشمل, فهذا تصرف عاقل يدل علي نبل أخلاقك ومعدنك الأصيل, وعليك أن تتعامل مع الموضوع بعقلانية شديدة. وسوف تتحقق أمنيتك وسيرتاح ضميرك وتستقرون جميعا وتهدأون بالا بإذن الله.