الكاتب عين الحياة, يتأملها, يتفرس فيها, يفلسفها, ولا يعبر تفاصيلها. الكاتب بمسرحه الذهني يري ما لا يراه الآخرون, وعدسة عين الكاتب تلتقط الصور أوضح ولعلها.. أعمق. وقفت سيارتي في إشارة مرور ما يزيد علي نصف ساعة, وقبل أن ينفد صبري, رفضت التركيز في الحالة المزاجية للموقف, وتيقظت حواسي الذهنية التي حرضت البصيرة لا البصر لاستيعاب المشهد, فأنا أقرأ الضجر علي الوجوه داخل السيارات وتختلف من شخص الي آخر طريقة الافصاح عن ضجره, واحد يدخن بشراهة وآخر يده علي الكلاكس المزعج الصوت وثالث يرفع صوت المسجل بغيظ مكتوم ورابع يشتبك مع زوجته بعنف وأصوات الغضب تصل أذني, وخامس يلقي من شباك سيارته أوراقا وبقايا مهملات في الشارع حيث فرض علينا الوقوف الاجباري, وسادس يغادر السيارة ويبرطم بكلام غير مفهوم, والأدهي من ذلك طاقم شحاتين ومتسولين ونساء يحملن أطفالا مؤجرين بهدف التسول وعجائز يعبرن بين السيارات وحين طال الوقوف وكان الوقت ظهرا أدركت ما معني عبارة هدر الوقت, وأدركت أن تفسير التصرفات المتشنجة التي أبصرها هو ارتفاع الأدرينالين في الجسم حيث يصدر عن الإنسان تصرفات محتقنة غير مسئولة مصحوبة بضيق في التنفس, وبالنسبة لي, فأنا متكيف مع الوضع ومتوافق معه لإعادة التوازن وإزالة التوتر!( خبرة حياتية) بحر من السيارات وأسرح في ترخيصات جديدة لسيارات تجري فوق الطرق تضيف للتكدس تكدسا, وأضع نظارة مستقبلية من النادر أن يستخدمها مسئول وأري صورة مخيفة لشوارع مليئة بالسيارات والبشر, خطف انتباهي بكاء أطفال في ميكروباص يحشرهم حشرا ولعله الجوع ولو كان معي كيس فاكهة لوزعته عليهم في الحال, أبصرت شيئا آخر لا تراه إلا في مصر المحروسة, تسلل موتوسيكل من بين السيارات وصعد علي الرصيف ليهرب من الزحام وشعر سائقه بالزهو(!) وكم هي رخيصة انتصاراتنا؟ لا شئ أفعله, لا أقرأ جريدة قديمة لأتسلي ولا أجيد كتابة رسائلSMS لأقضي الوقت ولست مستعدا للكلام مع أحد واندهشت من نصيحة لجوليا روبرتس في فيلم أخير لها تقول( حلاوة ألا تفعل شيئا)! هاآنذا لا أفعل شيئا سوي الانتظار, فأين الحلاوة وليتني أعرف مدي الانتظار ومتي تأتي لحظة الفرج ولكن هذه اللحظة رهينة قانون الصدفة وبورصة الطرق انها لحظة درامية تجتذب مخرجا مثل كلود ليلوسن يطلق علي فيلمه( الحصار), نعم, ليس في استطاعة أي قائد سيارة أن يهرب الي شارع جانبي, فالحال واحد وعلي جميع أن يمتنعوا عن المغامرة, علي مدي الشوف الإشارة حمراء, أي لا تعبر, وأسرح كم عدد القضايا المعوقة لمسيرتنا, جاء أوان فتح سيرتها, كان التأجيل هو الحل! مغرم أنا بالتحديق أكثر في الشأن العام مثلما أحدق في العلاقات الإنسانية ولأن قطار الحياة يرمح, فلا فرصة للنظر وليس للتحديق, نحن نلهث في كل شئ ولا نتريث مطلقا, نحن نأكل ولا نستطعم, حتي لقاءات الأصدقاء لا تخلو من تعصب لشئ ما, لحزب, لناد, لزعيم! والتعصب لحظة عمياء لا تميز وربما كنا( قانعين), لكننا لسنا( سعداء), أحيانا اجتر لحظات سعادة مرت كالومضة, استدعيها لتهزم احباطا يحاصرني, هاآنذا في هذا الحصار المروري استدعي لحظات رحلة فوق يخت طاف مواني ايطاليا وفصلني عن العالم, استدعي من مصر لحظات تجوال في( الجونة) عندما يأتي المساء.. ما أفعله في هذه اللحظة هو شرود اضطراري يقتلعني من هذا المأزق المتكرر وقد سئم الناس من الشكوي ويتفرجون في الأمسيات علي أفلام زمان حين كانت شوارع القاهرة بخيرها وعدد( أوتومبيلاتها) قليلة والمشاوير سهلة والناس يتزاورون والدنيا رايقة والنجوم طالعة تنورها, كان الناس أقل ضجيجا وتوترا وأكثر مودة وتسامحا, أيقظني من تحديقي خناقة دبت فجأة, فالسيارة المجاورة تعرضت لشكة من الخلف لا تستوجب الذعر ولكن لأن هذا الزحام يولد العنف من ضيق المساحة المتاحة والاستئثار بالاكسجين, نزل البيه من سيارته ووجه لسائق السيارة المتهمة بغليظ القول( مش تبقي تفتح يااعمي), رد الرجل( يا أستاذ سمعت موتورات العربيات بتدور قمت واخد خطوة, عملت جناية؟) اعترف أنه أدهشني استسلامي للواقع, فهل هو موقف اليائس أو من( يعرف فلا يحزن), يعرف أن الشوارع لا تلد, ولكن نساء مصر يلدن بكثرة ووفرة, يعرف أن العواصم تجتذب الناس والمدن التي جاءوا منها فقيرة المعالم, يعرف أن النقل الداخلي لم يجتذب حتي ينصرف الناس عن سياراتهم, يعرف أن في البيت الواحد5 سيارات, و10 موبايلات! يعرف أن الكباري والانفاق والمدن الجديدة, مسكنات وقرحة العاصمة قائمة, بدأت تتساقط فوق رأسي أمطار الاحتمالات, ماذا لو مريض سكر فاجأته أزمة كومة؟ ماذا لو سيارة اسعاف تريد العبور؟ ماذا لو شب حريق في هذا الشارع وجاءت عربات المطافئ فكيف تثقب هذا الحشر؟ لاحظت من شباك سيارتي مشهد جنون:, واحد آخر قفل عربيته وفضل العودة لبيته القريب من موقعنا سيرا علي الاقدام, وفجأة انفرج الكرب ودارت الموتورات وارتفعت الزمامير وبدا سباق مخيف أشبه بخروج فئران مذعورة من المصيدة وصارت كل عربية تزنق علي الأخري لتفر من الحصار, كنت هادئا مراقبا فلم أكن السائق لاني أجهل القيادة( نعمة), وربما كان هدوئي هو مبادئ علم اليوجا! إنه فن ممارسة الصبر في أوقات الألم.