جاء كتاب ثروة الأمم لآدم سميث ليضع أسس علم الاقتصاد الحديث ويمكن تلخيص أهم أفكار آدم سميث حول محورين أساسين: الأول يكمن في مفهومه لتقسيم العمل والثاني يدور حول فكرته عن اليد الخفية. أما تقسيم العمل فإنه يشير إلي أهمية زيادة الإنتاجية عن طريق التخصص وتقسيم العمل, وبذلك يمكن القول إن الإشارة إلي تقسيم العمل لاتعدو أن تكون تأكيدا علي أهمية التقدم التكنولوجي فالأساس الأول لبناء ثروات الأمم عند سميث هو الأخذ بأسباب التقدم التكنولوجي. وأما المحور الثاني لنظرية سميث فهو فكرة اليد الخفية, ومقتضاها أن الأفراد في سعيهم لتحقيق مصالحهم الخاصة وزيادة أرباحهم, فإنهم في نفس الوقت يحققون المصلحة العامة بإشباع حاجات الناس بأقل التكاليف. وكل ذلك يتحقق من خلال المنافسة في الأسواق. ومنذ منتصف القرن الماضي بدأت موضوعات التنمية في الدول الفقيرة وموضوعات النمو في الدول الصناعية تطرح نفسها علي الاقتصاديين, وكان هناك اتفاق بين الجميع علي أن التقدم التكنولوجي هو العنصر الرئيس لبناء الثروة يستوي في ذلك جهود التنمية في الدول الفقيرة أو سياسات النمو في الدول الصناعية, ولاغرو في ذاك فتاريخ تقدم البشرية هو تاريخ تطور التكنولوجيا. ولكن كيف يعالج موضوع التقدم التكنولوجي في سياسات التنمية أو النمو ؟ ثم ما هي علاقته بالمنافسة؟ ونظرا لأن الرأي السائد في الدراسات الاقتصادية بقسم عناصر الإنتاج إلي: عمل وطبيعة ورأس المال, وأن معظم التطورات التكنولوجية إنما تترجم في نهاية الأمر في شكل آلات أحدث ووسائل إنتاج أكثر كفاءة, لذلك اتجه معظم المفكرين الاقتصاديين إلي اعتبار التقدم التكنولوجي هو أحد مظاهر رأس المال, فعن طريق زيادة تراكم رأس المال( أي الاستثمار) يتحقق التقدم التكنولوجي المطلوب. ولذلك فقد جاءت معظم نماذج التنمية والنمو معتمدة علي زيادة الاستثمار والادخار, فالتقدم التكنولوجي لم يعد ينظر إليه كعنصر مستقل بل أصبح صفة ملازمة لرأس المال ومتضمنة فيه, وبالتالي لاحاجة لسياسة مستقلة للتقدم التكنولوجي, فيكفي الارتفاء بالأسواق المالية وتحسين مناخ الاستثمار. ورغم ذلك توجد بعض المحاولات للنظر إلي التقدم التكنولوجي باعتباره عنصرا مستقلا, وهي مازالت في البداية. ويتضح مما تقدم أن الاقتصاديين بشكل عام وكذا الحكومات والمؤسسات الدولية قد تعاملوا مع قضية التقدم التكنولوجي باعتباره نتيجة حتمية ولازمة لعمليات الاستثمار خاصة الاستثمار الخاص. فيكفي لتحقيق التقدم التكنولوجي أن نزيد الاستثمارات الخاصة, فهي اللاعب الرئيسي في هذا الميدان. ولكن هل هذا صحيح؟ وهل هو صحيح دائما؟ نبدأ بالقول إنه رغم الاعتراف بصحة مقولات آدم سميث بشكل عام عن التوافق بين تقسيم العمل واليد الخفية أو بعبارة آخري بين التقدم التكنولوجي و تنافسية الأسواق, فقد تشكك عدد كبير من الاقتصاديين في صحة التلازم بين الأمرين في كل الأحوال, فهناك أحوال لا تصلح فيها أسواق المنافسة لتحقيق التقدم التكنولوجي والذي يتطلب أشكالا في الاحتكارات. ففكرة المنافسة تنطوي علي الاعتراف بأن هناك حجما أمثل للمشروع تحقق المشروعات عند أدني تكلفة للانتاج, فيما جاوز هذا الحد ترتفع هذه التكلفة. وعلي العكس فإذا كانت التكلفة تنخفض باستمرار مع زيادة حجم المشروع, فمن الطبيعي أن يتوسع هذا المشروع حتي يسيطر علي السوق كليا, ويصبح محتكرا. وهذا هو مفهوم الاحتكار الطبيعي, والذي ينصرف إلي الصناعات التي تعرف تناقصا في التكاليف أو ما يعرف بالغلة المتزايدة. ولذلك فإن هناك تعارضا بين التقدم التكنولوجي وبين المنافسة في أحوال تزايد الغلة. وكان الاقتصادي الأمريكي ألن يونج قد طرح هذه القضية في محاضرة له سنة1928 كما تحدث عنها جورج ستيجز( جائزة نوبل) في مقال له في الخمسينيات, ولم يفت الاقتصادي الأمريكي جالبرت الإشارة إلي أن المشروعات الأمريكية التي تمثل فخر الصناعة بتقدمها التكنولوجي هي نفسها التي يزورها المدعي العام بين الحين والآخر لانتهاكها قواعد المنافسة. ولكن مشكلة التقدم التكنولوجي لاتقتصر علي أنها قد تتعارض مع مقتضيات المنافسة, بل هناك جوانب أخري في طبيعة التقدم التكنولوجي تجعله ينفر من مفهوم اقتصاد السوق في ذاته, تنافسيا كان أو احتكاريا فالتقدم التكنولوجي لاينسجم دائما مع مفهوم السلعة الخاصة الذي هو جوهر نشاط السوق التقدم التكنولوجي ينطوي في جوهره, علي نوع من السلعة العامة كيف؟ ليس هنا مجال التفصيل في تعريف مفهوم السلعة الخاصة والسلعة العامة, ولكن يكفي أن نشير إلي أن الأصل في معظم السلع الخاصة هو أنها تتمتع بخاصية الاستئثاروالمزاحمة, بمعني أن صاحبها يستأثر بحق الانتفاع بها والقدرة علي حرمان الآخرين منها, وأن انتفاعه بها لا يقبل مزاحمة الآخرين له في الانتفاع بها أيضا, فإذا كان معك ساندويش فأنت تستأثر به ولك أن تأكله وتمنع الآخرين من استهلاكه, وإذا أكلته فإن الغير لايستطيع الانتفاع به فالسلعة الخاصة هي لي أو لك ولكن ليس للاثنين معا. وهذا المقصود بالمزاحمةRIVAL. وعلي العكس فإن السلعة العامة لاتعرف في الأصل مبدأ الاستئثار, كما يمكن مشاركة الآخرين في الاستمتاع بها دون انقاص حقك في الانتفاع بها أيضا فأنت تستمتع بالموسيقي في الراديو ولايضيرك أن يستمتع بها الآخرون في نفس الوقت ومن أهم أشكال السلع العامة سلعة المعرفة. فالأستاذ يدخل قاعة المحاضرات ويلقي درسه علي طلابه. هذا هو جوهر السلعة العامة. فماذا عن التقدم التكنولوجي؟ التقدم التكنولوجي هو في جوهره أفكار جديدة, قد تكون نظريات علمية أو تطبيقات لنظرية معروفة أو وسائل جديدة للإنتاج أو أساليب للإدارة وهكذا وإدخال التقدم التكنولوجي في أي بلد يتطلب المعرفة بهذه الافكار ونقلها إلي مكان العمل في شكل آلات أو أدوات جديدة أو أساليب مختلفة أو نظم حديثة., هكذا يعتمد التقدم التكولوجي علي اقتصاديات الافكار أكثر من اعتماده علي اقتصاديات الأشياء وعندما تظهر الأفكار الجديدة مع التطور التكنولوجي فإن الجميع يمكن أن يفيد منها دون خسارة علي صاحبها. والحقيقة أنه يصعب حرمان الآخرين من الإفادة من الأفكار الجديدة إلا بوسائل مصطنعة مثل وضع قيود علي استخدام الاختراعات الجديدة( براءات الاختراع) لمدة معينة حماية لحقوق المخترع. وليست هذه علي أي الأحوال قضيتنا هنا. فالقضية هي أن التطور التكنولوجي هو في جوهره خلق للمعرفة ونشرها واستخدامها وتطويرها. وانتاج المعرفة بهذا الشكل وهو انتاج لسلعة عامة حيث لايحفل بها المشروع الخاص إلا في حدود ضيقة فلا توجد شركات خاصة لانتاج أو بيع نظريات علمية لأنها مجرد أفكار وليس سلعا خاصة فليس هناك سوق للعلم هناك فقط سوق للشهادات كذلك لايتحقق التقدم التكنولوجي بمجرد شراء آخر الصيحات الفنية للآلات واستخدامها وفقا لتعليمات البائع, التقدم التكنولوجي يتطلب الاستيعاب والاضافة, وإن لم يكن باختراع جديد فعلي الاقل بالتطوير والملاءمة مع الظروف المحلية. وكل هذا يتطلب معرفة فنية واسعة وخبرة وقدرة تحليلية ونقدية. وهذا لا يتحقق إلا بالتعليم والبحث العلمي. الخطوة الأولي للتقدم التكنولوجي اذن, هي خلق قاعدة واسعة من المعرفة, وهذا يتطلب وجود أساس متين للتعليم العام والبحث العلمي. وهي مجالات لايمكن القيام بها بعيدا عن تدخل الدولة. www.hazembeblawi.com المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي