كانت بولندا تئن تحت وطأة إرهاب وطغيان الاستعمار الروسي الذي استبد بشعبها تحت اسم معاهدة فنييا التي وقعت بعد حروب نابليون بونابرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر, وكان الشعب البولندي قد وحد صفوفه ودعا الي الجهاد ليحقق الحرية لبلاده, ففي هذه المحنة صارت بولندا بركانا هائلا يغلي ويفوز. لم تعد مكانا آمنا ملائما لفنان يعمل ويبدع في صمت وهدوء: فتجمع الاصدقاء حوله يطلبون منه الرحيل إلي أي بلد آخر حتي يتمكن من أداء واجبه الوطني من خلال إبداعاته, وليحمل معه اسم وطنه بولندا وقضيتها الي أنحاء العالم, بينما هم يحملون عنه السلاح لتحرير الوطن. لكنه حاول أن يبقي في بلاده ويشاركهم حمل السلاح.. إلا أنه أدرك لحالته الصحية وجسده العليل انه لن يستطيع أن يحقق لوطنه نصرا أو مجدا عسكريا, فامتثل لمطلب اصدقائه, رغم شعوره بالحزن والاسي والتمزق لفراق وطنه.. فتجمعوا حوله يودعونه قبل رحيله عام1830 عن وارسو التي لم يعد اليها أبدا سوي قلبه حسب وصيته, وأهدوه لفافة بها حفنة من تراب الوطن حتي لا ينساه, وطالبوه بان تحيا بولندا في أعماله ويجسد ويمجد ثورتها وقضيتها في موسيقاه.. إنه فريدريك فرانسو اشوبان شاعر البيانو, الذي تخطت شهرته كل الحدود.. ولد عام1810 لأم بولندية وأب فرنسي الأصل وتجلت موهبته في العزف وهو طفل صغير, وموهبته في التأليف وهو ابن الخامسة عشرة.منذ أحد عشر عاما احتفل العالم بمناسبة مرور150عاما علي وفاته وفي هذا العام يعاود العالم الاحتفال به في ذكر مرور200 عام علي ميلاده, إنه أحد أكبر الرومانتيكيين في القرن التاسع عشر, ولولا آلامه الذاتية وأحزانه علي وطنه المغتصب التي لا يخلو منها عمل من أعماله لصنف في قائمة الكلاسيكيين المتأخرين, فقد اتجه الي حد بعيد للتخلي عن القوانين الموسيقية الصارمة لصياغات القرن المنصرم, وأطلق العنان لخيالة ومشاعره الذاتية لتكون هي المسئولة عن صياغة ابداعاته, فقد كان له حس مرهف وعاطفة وطنية تمكنت من نفسه وارتبطت بها وجعلت ألحانه تجمع بين العذوبة والصيحات الوطنية وتمثل ذلك في اعماله للبيانو, وبشكل خاص اعماله التي تحمل عنوان بالاد وهو مصطلح قديم أطلقه شوبان علي مؤلفاته المستوحاة من أعمال أدبية تحمل الروح البولندية ومن هنا اطلق عليه شاعر البيانو حيث وهب كل أعماله للبيانو ما عدا استثناءات قليلة.. كان شوبان دون شك أكبر عازف ومؤلف للبيانو آنذاك, إذا ما استثينا فرانزليست المؤلف والعازف المجري الذي عاش في باريس ووجد في شوبان منافسا أوحد إلا أنه نحي جانبا كل المشاعر الشخصية مقابل اكتشاف عبقرية جديدة آتيه من بولندا واحتضنه وقدمه للجمهور والنقاد واعتبره اكبر مؤلف وعازف للبيانو في تاريخ الموسيقي, فقد كتب مقالا عن أعماله مقدمات للبيانو قائلا هذه هي المقدمات الشعرية الجديدة لشاعر معاصر كبير.. فهي ترقي بالروح الي حدود المثالية, ومن مواقف ليست النبيلة أيضا ان اصطحب الجمهور الذي حضر لاحدي حفلاته وذهب به الي حفل شوبان الذي اقيم في نفس اليوم في ضاحية اخري ليستمعوا اليه تشجيعا له.. كما كتب عنه روبرت شومان المؤلف الالماني في مقال الشهير بعد ان جاء ليستمع الي حفله في رحلته الأولي الي فيينا1829قائلا اخفضوا قبعاتكم أيها السادة.. انه عبقري.. والي جانب عزفه وكونه مؤلفا كان شوبان معلما بارعا, خصص جزءا كبيرا من وقته لتلاميذه الذين كانوا يأتون من بلدان عديدة للدراسة علي يديه. تأثر شوبان في أسلوب عزفه والكتابة للبيانو بتقنيات الأداء المعقد عند شيطان الكمنجة الايطالي باجانيني الذي استمع اليه في رحلته الي فيينا الرحلة التي جلبت لشوبان الشهرة الواسعة, والتي علم في اثنائها ان الروس سحقوا ثوار بولندا واحتلوا العاصمة التي حولو ارجاءها الي رماد وخراب.. أما من المؤثرين في أفكاره فكان يوهان نيبومك هوميل تلميذ موتسارت وهو مؤلف نمساوي من أصل سلوفاكي والذي ترك أسلوبه الكلاسي رومانسي أثره علي شوبان. كان شوبان يؤمن بان يوهان سيباستيان باخ شيخ موسيقي الباروك في القرن الثامن عشر موسيقيا فوق الجميع وتأثر به كثيرا حتي النهاية, ففي الاضافات التي قدمها باخ في كتابه الشهير الكلافير المعدل منحت شوبان فرصة كبيرة لابداع مجموعة من الدراسات للبيانو والتي تهدف إلي زيادة قدرات العازف التقنية ومهاراته الفنية وهي التي قدمها ليست بنفسه في حفلاته عام 1836 استقر رحيله في باريس عاصمة النور والثقافة والفن والتي كان يجتمع فيها المفكرون والأدباء والشعراء والفنانون وهناك التقي بالرومانتيكيين, الفريد دي موسيه وهكتور برليوز وفكتور هوجوه, وفي عام8381 تعرف علي الاديبة اورور ديديفان التي كانت تعرف باسم جورج صاند والتي كان لها تأثير كبير في حياته, وقد قالت عنه انه لمن الممتع ان يري الانسان يدي شوبان الصغيرتين وهما تمتدان لتسيطرا علي مفاتيح البيانو.. ولكل اصبع من اصابعه صوت مميز.. يجلس الي البيانو ويحوله الي حياة حزينة.. كنفسه ومثل بلاده. أحب شوبان الأدباء والفنانين وكان الجميع يبادلونه نفس الشئ لأنه لم يكن سليط اللسان مثل ريشارد فاجنر ولا صعبا صلبا مثل برامز ولا قاسيا مثل لودفيج فان بيتهوفن ولا عنيدا فظا مثل هيكتور برليوز, فعندما مات بكاه الجميع وقارنوه بالعباقرة السابقين له موتسارت وشويرت واعتبروه طفلا اعجوبيا. تأثر شوبان في المقام الأول بموسيقي بلاده الشعبية التي كانت مصدر الهامه وكان يعرف الحان الحقول والغابات والوديان وأغاني الفلاحين البسطاء, ولهذا فقد عجز الكثيرون بعد موته وهم يحاولون ان يجدوا فيه مؤلفا صنعته فرنسا والثقافة الفرنسية ولكن دون جدوي ففي المكان الذي عاش فيه لم يكن فرنسيا إلا بالقدر الذي استطاع أن يتحسس فيه الثقافة الفرنسية ولم يصبح فرنسيا بطباعه بل حافظ علي قوميته ووطنيته وكان بذلك أكثر الفنانين الغرباء الذين عاشوا في فرنسا اصالة ووطنية بدءا من ليست وانتهاء ببوسلاف مارتينو التشيكي1890 .1959 في1848 عام ثورة باريس التي أطاحت بلويس فيليب في فرنسا وأيدها شوبان وليست وبرليوز, سافر شوبان الي انجلترا, وقدم مجموعة من الحفلات لمساعدة اللاجئين البولنديين من أبناء وطنه, مما اجهد جسده العليل.. فمات شابا في71 اكتوبر1849 بعد عودته الي باريس, حيث شيع جثمانه من كنيسة مادلين.. وقدم قداس موتسارت الجنائزي ونثر علي قبره ترابا من ارض بولندا, وحسب وصيته أرسل قلبه ليدفن في وارسو عاصمة وطنه وبقيت أعماله التي ورثناها حقيقة خالدة في تاريخ الموسيقي.. والتراث الانساني.