أثار حكم المحكمة الإدارية العليا القاضي بإلزام الحكومة بإنشاء وحدات للأمن الجامعي تتبع وزارة التعليم العالي بدلا من الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية مواقف متابينة, واتجاهات مختلفة لدي فئات مختلفة من المهتمين بالشأن العام في مصر بصفة عامة, وبالنواحي التعليمية بصفة خاصة, كما أثار هذا الحكم عدة تساؤلات مشروعة حول طبيعة العلاقة بين أمن الجامعة واستقلالها, وهل هما ضدان لايجتمعان أم هما وحدتان متكاملتان يمكن الربط بينهما والجمع بين مكوناتهما؟ لابد أولا من الإشادة بقرار الحكومة علي لسان رئيسها, ووزير التعليم العالي بتنفيذ أحكام القضاء, والعمل علي تطبيقها, كما يجب الإشارة إلي أن جامعة القاهرة وبناء علي سيناريوهات مسبقة لما يمكن أن يكون عليه الحكم, قد بادرت منذ يناير الماضي بإنشاء إدارة للأمن المدني, رغبة منها في تطوير العمل الأمني في الجامعة من ناحية, وتحسبا لأي طارئ في هذا الخصوص من ناحية أخري. ويمكن الإشارة إلي ثلاث فئات رئيسية علقت علي هذا الحكم, وظهر رد فعلها تجاهه: الفئة الأولي وهم فئة الإعلاميين: الذين نظروا إلي هذا الحكم باعتباره حكما تاريخيا, واعتقد بعضهم في أنه بعد هذا الحكم سيتم حل كل مشكلات البحث العلمي في مصر, حيث أشار البعض إلي أن الأمن هو الذي يعين, وهو الذي يحدد مسارات البحث, وهو الذي يتحكم في لجان الترقيات, وبطبيعة الحال فإن شهادة هؤلاء الاعلاميين هي أشبه بشهادة متخصص في الكيمياء علي ما يحدث في المطبخ الصحفي, هي شهادة ينقصها الدقة, وتعتمد علي السماع وطبيعي أنه ليس من رأي كمن سمع.الفئة الثانية وهم الأساتذة ذوو التوجهات السياسية اليسارية منها واليمينية, والذين مثل الأمن عائقا ضد محاولاتهم الدائمة تحويل الجامعة إلي معسكرات حزبية وإلي قواعد طليعية يمكن من خلالها التأثير علي المجتمع. وقد أقام هؤلاء الأفراح ابتهاجا بهذا الحكم, وفي ظنهم أنه بعد هذا الحكم سيكون من السهل تنفيذ الخطط والمشروعات الرامية إلي إشراك الطلاب بقوة في العمل الحزبي, وانغماسهم في العمل السياسي.. و شهادة هؤلاء مجروحة, حيث يمثل عامل المصلحة الذاتية والدافع الشخصي عائقا دون الحكم الموضوعي علي القضية. أما الفئة الثالثة فهم الأغلبية العظمي من الأساتذة والطلاب في الجامعات المختلفة, والذين لم يشعروا بتدخلات الأمن, كما يحاول البعض تصوير ذلك, في حياتهم العلمية والبحثية, وهؤلاء كان رد فعلهم هو الخوف علي الجامعة من أن تندس فيها فئات لا صلة لها بالنواحي العلمية, والقلق من أن تصبح الجامعة ميدانا للصراع الحزبي والديني, وهذه الأغلبية الصامتة هي صاحبة المصلحة الحقيقية في بقاء الجامعة ساحة للعلم والدراسة, بعيدا عن أي مؤثرات خارجية. التساؤل الذي سيطر علي معظم النقاشات المتعلقة به هو: هل يوجد تعارض بين أن تكون الجامعة ساحة آمنة وأن تكون مستقلة؟! والحقيقة أن هذه التساؤلات يمكن صياغتها والرد عليها بطريقتين: الأولي استفهامية والثانية تعجبية, وفي رأيي أن الطريقة الثانية أولي بالاتباع, فالقول بأن وجود الأمن يفقد الجامعة استقلالها هو قول مردود عليه لأسباب عديدة, منها أن وجود الأمن غرضه الأساسي هو توفير الظروف الموائمة والملائمة للقيام بالعملية التعليمية علي النحو المرغوب, والعمل علي ألا تتحول الجامعة إلي ساحة شجار لأطراف دخيلة علي العملية التعليمية, وهذا الوجود في رأيي يفيد العملية التعليمية.. ولو كان وجود الأمن في مكان يفقده استقلاله لكان الأجدي أن يتم طرد الحراسة الخاصة بمجلسي الشعب والشوري, فالحاجة إلي استقلالهما أكبر, ما أريد أن أقوله هو أن وجود الأمن في مكان ليس شرطا أن يؤدي إلي فقدان الاستقلالية علي أي نحو من الأنحاء. إضافة إلي ذلك, فإن التجارب السابقة تشير إلي أن الآثار الناتجة عن عدم وجود الأمن يفوق المميزات الاعتبارية التي يشير إليها البعض.. ولنتذكر أحداث جامعة أسيوط في بداية الثمانينيات, والاستعراض العسكري في جامعة الأزهر منذ عدة سنوات, وما يمثله ممثلو الجماعة المحظورة في كثير من الجامعات من خطر علي العملية التعليمية ذاتها, وهي بيت القصيد في هذا الموضوع. إضافة إلي ذلك, فالقول بأن الأمن يتدخل في الترقيات هو قول أشبه بما يشير إليه بعض علماء السياسة بمصطلح تفسير الشاطئ الأخير, فعندما يعدم بعض الأشخاص الحجج المفسرة لعدم قدرتهم علي الترقي, وعلي عدم قبول أبحاثهم العلمية, يكون تفسير الشاطئ الأخير وتكون الشماعة الجاهزة هي الأمن وتدخلاته. وقد يقول البعض: ولماذا لا نقلد الجامعات المحترمة في الخارج؟ هل تري فيها حراسة؟ والرد ولماذا لا نأخذ نظام الجامعات المحترمة بأكمله, حيث لا تتدخل السياسة في العملية التعليمية, وحيث يكون الطلاب والأساتذة علي قدم المساواة يتمتعون بالمسئولية الاجتماعية وبالمعايير الاحترافية في الأداء, وحيث يكون الأمن موجودا في كل شبر بأجهزة استشعار غير عادية, لو تم توفير هذه الامكانات وذلك المناخ لكنا أول المنادين بإبعاد الحرس عن الجامعات علي الفور. إن مسئولية الحفاظ علي أمن مائة ألف طالب علي الأقل يوجدون يوميا في الحرم الجامعي لجامعة القاهرة, علي سبيل المثال, لهي مسئولية ضخمة, كان حرس الجامعة يديرها باحتراف, دون أن يتعارض ذلك مع استقلاليتها العلمية والإدارية, ومع ذلك لا نقول إلا سمعا وطاعة لقرار المحكمة الإدارية العليا.