وقد تفككت إمبراطورية الشر السوفيتية كما كان يسميها الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان. اليوم يحق لنا التساؤل عن حصيلة هذا النظام العالمي الجديد في بلاد العرب طوال عقدين من الزمن. وما هو قدر مسؤوليتنا العربية عما بلغته هذه الحصيلة من تفاقم ومأساوية؟ مشاهد الحاضر العربي في أكثر من بلد تشي وحدها بالاجابة. العراق يعاني من الفوضي والصراع وقد بانت ملامح التفكك علي الأرض لتحيل التنوع الديني والطائفي والعرقي في بلاد الرافدين إلي قوي تبحث عن خصوصيتها وتطلعاتها وتأكيد ذاتها بين السنة والشيعة والأكراد. وكان أحدث ما شهده بلد الرشيد هو إعلان محافظة النجف عن بحث فتح ممثليات دبلوماسية لها في أنحاء العالم. وهو ما أثار جدلا قانونيا حول مدي اتساق ذلك مع مبدأ كون التمثيل الدبلوماسي ينحصر بوزارة الخارجية وحدها. والسودان يتعرض لخطر وشيك يكاد يتحول إلي تقسيم فعلي علي الأرض بانفصال الجنوب عن الشمال والاحتمال الأكبر لإعلان دولة جنوب السودان إثر الاستفتاء المزمع إجراؤه في شهر يناير المقبل. والنزاع ما زال قائما بين الشمال والجنوب حول منطقة أبيي التي صارت تسمي منذ الآن منطقة حدودية بين الشمال والجنوب وهي تختزن80% من الاحتياطي النفطي للسودان. هو النفط إذا مرة أخري! السؤال المشروع هل كان هذا الاستنفار الغربي والأمريكي علي وجه التحديد من أجل انفصال جنوب السودان عن شماله ليتم لو لم يكن هناك هذا المخزون النفطي الهائل؟ لا تبدو الاجابة صعبة. فالواقع يؤكد أن حاسة الشم الغربية لمواقع النفط أدق كثيرا من حاسة السمع التي لا تأبه لصراخ وإنات أطفال العرب. وإذا أضفنا إلي حالتي العراق والسودان الوضع المنهار في الصومال والمأساوي في فلسطين والمأزوم في لبنان والمعقد في اليمن لكان لنا أن ندرك حجم المخاوف والأخطار التي يختزنها العالم العربي. المحزن والمقلق أكثر أن هناك قاسما مشتركا يجمع بين كل هذه الأوضاع هو ببساطة ودون مواربة السعي لتفتيت خارطة الجغرافيا السياسية للعالم العربي وتفكيك المناطق الرخوة فيه ربما استعدادا للتسلل إلي دول القوة من خلال توظيف واقع التنوع الديني أوالطائفي أو العرقي ليكون هو نفسه أداة للتفكيك. والمثالان العراقي والسوداني حاضران بشدة. والذرائع موجودة والمسألة برمتها قد لا تكون أكثر من مسألة ظهور حاجة نفطية أو إستراتيجية لا أكثر! لكي تعرف الخطط والسيناريوهات السياسية التي تعدها القوي العالمية الكبري للعالم العربي عليك أن تقرأ إصدارات بعض مراكز الأبحاث والدراسات العالمية فيما بين السطور وما وراء السطور! فبعد عشرين أو ثلاثين عاما ستتحول هذه الأفكار بالونات الاختبار إلي وقائع تنفذها علي الأرض القوي العالمية الكبري. حدث هذا في بداية ثمانينيات القرن الماضي حين كنا نقرأ للمرة الأولي عن أفكار جديدة نراها من قبيل الشطحات والمبالغات مثل الحرب الاستباقية والتدخل الإنساني فإذا هي اليوم جزء من الإستراتيجية الأمريكية وإن بدت أحيانا تحت غطاء أممي تتكفل الأممالمتحدة بتوفير شرعيته الدولية. منذ ثلاثين عاما فقط كانت هناك مسلمات وثوابت مثل احترام السيادة الوطنية ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وإدانة الحروب العدوانية. اليوم يتم تفريغ هذه المبادئ من محتواها بمبادئ أخري مضادة تسوق في الظاهر لحماية القيم الإنسانية والسلام العالمي ولكنها في الجوهر والواقع تخدم أهدافا استراتيجية وسياسية للقوي العالمية المهيمنة. ولهذا تقدم مبدأ كفالة حقوق الانسان علي مبدأ احترام السيادة الوطنية. وأصبح التدخل الإنساني وحماية الأقليات مبررين للانتقاص مما كان يعرف بالقيد الداخلي أو الشؤون الداخلية للدول. وأصبحت فكرة بل بدعة الحرب الاستباقية إجهاضا لمبدأ عدم جواز استخدام القوة وتجريم العدوان. للوهلة الأولي تبدو المبادئ والمقولات الجديدة براقة ومشروعة وقد مثلت جزءا من الأيديولوجية القانونية لما عرف بالنظام العالمي الجديد. هذا المصطلح الذي تردد علي خلفية حرب الخليج الأولي منذ عشرين عاما. لكن الممارسة الفعلية لهذه المبادئ أفضت إلي نتائج مغايرة بحيث بدت أشبه بذرائع قانونية وأقنعة تمويه سياسي لإخفاء أجندات إمبراطورية ومصالح قوي عالمية. لا أحد ينكر بطبيعة الحال الأبعاد الأخلاقية لحماية حقوق الإنسان أو مبررات التدخل الإنساني في بعض الأحوال. لكن وجه العجب وربما الخجل أن النظام العالمي الجديد يشهر قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان حينما يريد ويتجاهلها أيضا متي يشاء. وفي الحالتين فإن الأمر يتوقف علي مصالحه وأجندته. مظهر التناقض بين خطاب النظام العالمي الجديد وممارساته أن العرب قد احتكروا دور الضحية حتي لم يسع لأحد آخر غيرهم!! فلم يحدث علي مدي عشرين عاما هي عمر النظام العالمي الجديد ومن قبلها أربعون عاما أخري هي عمر الصراع العربي الإسرائيلي أن تم تطبيق مبدأ إنساني واحد علي انتهاكات حقوق الإنسان في الأرض المحتلة في فلسطين. ولم يعد الأمر مقتصرا علي فلسطين وحدها التي لا بد وأن نعترف أننا جميعا كعرب وفلسطينيين نتحمل جزءا أصيلا من المسؤولية عما آلت إليه الأمور فيها. فقد أصبح لدينا دول عربية أخري تعاني من الصراع السياسي والتوتر الاجتماعي ومخاوف التفكك والتقسيم. إن ست دول عربية تمثل أكثر من ربع عدد البلدان العربية تعيش أصعب أيام تاريخها الحديث في العراق وفلسطين والصومال والسودان ولبنان واليمن. وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها فالواقع أن تعبير النظام العالمي الجديد كان هو الاسم الحركي لأجندة السياسة الأمريكية في بلاد العرب. هذه رؤية واقعية للأمور من دون تنظير ولا رتوش. ليس في هذه الرؤية مبالغة فهي تعبير عن مصالح قوي عالمية كبري شهد مثلها التاريخ في كل مراحله. كان الفارق بين مرحلة وأخري هو فقط اسم الإمبراطورية أو القوة المهيمنة. السؤال هو ماذا عنا نحن ؟ لم نفعل نحن أكثر من المشاهدة وتنظير ما نتجرعه من آلام وإهانات في مشهد مازوشي نبدو فيه كمن يتلذذ بمعاناته. أما النظام العالمي الجديد فلم يفعل علي مدي عشرين عاما في بلاد العرب إلا محاولة العبث بالجغرافيا السياسية العربية سواء علي صعيد خارطتها القومية الإستراتيجية أو علي صعيد تضاريسها القطرية المحلية. وسواء تم استدعاء نظرية المؤامرة أو غيرها فالحقيقة لن تتغير. ويكاد التاريخ يعيد نفسه كل مرة دون أن نتعظ من دروسه ولو مرة واحدة في بلاد العرب. فاتفاقية سايكس بيكو حين تم بموجبها رسم حدود الكثير من الأقطار العربية تكشف عن حرص غربي واضح بل فاضح في تلغيم هذه الحدود بأفخاخ الصراع ومسببات النزاع ومكامن الطمع. واليوم يتكرر الأمر نفسه. وما انفصال جنوب السودان علي عتبة مخزون نفطي هائل إلا مثال جديد لمأساة قديمة متكررة.