أقرت لجنة متابعة مبادرة السلام العربية في اجتماعها بمدينة سرت الليبية التوجه العام للرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض مواصلة المفاوضات المباشرة في ظل استمرار البناء في المستوطنات اليهودية, وبعد أن ثمنت موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما وأشادت بخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام, والذي أعرب عن أمله بأن تشارك في اجتماعات الجمعية العامة القادم دولة فلسطين, أكدت اللجنة أنها سوف تعقد اجتماعها التالي بعد شهر. وقد أقرت القمة العربية الاستثنائية هذا التوجه, ومن ثم فإن فترة الشهر التي ستعقد بعدها لجنة المتابعة اجتماعها القادم هي بمثابة مهلة للولايات المتحدة كي تنهي اتفاقها مع الحكومة الإسرائيلية القاضي بتجميد البناء في المستوطنات لمدة شهرين لقاء حزمة من المكاسب المتنوعة التي تتراوح ما بين تسهيل الحصول علي أنواع حديثة للغاية من الأسلحة الأمريكية وتسريع عملية شحنها إلي إسرائيل, ووعود بأن يكون مطلب التجميد هذا هو الأخير من نوعه بهذا الشأن, وأيضا التعهد بإغلاق الطريق إلي مجلس الأمن أمام الدول العربية في حال قررت لاحقا التوجه إلي المجلس للحصول علي قرار مكمل للقرار181 لسنة1947, الذي نص في حينه علي دولتين: يهودية وعربية, أقيمت الأولي فقط واحتلت بعد أقل من عامين نصف المساحة التي خصصها القرار للدولة الثانية, وسيطرت علي ما تبقي لها من أرض عام1967, فالدول العربية المعتدلة تلقت وعودا أوروبية وعدم ممانعة أمريكية بالتوجه إلي مجلس الأمن واستصدار القرار اللازم بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة في حال فشل المفاوضات, ومن ثم فالحكومة الإسرائيلية تريد وقوف الفيتو الأمريكي حائلا دون تحقيق هذا الهدف المشروع. وهناك طائفة أخري من المطالب الخفيفة كأن يجري الإفراج عن الجاسوس جوناثان بولاريد. والسؤال هنا: هل تعد فترة الشهر مدة كافية تتمكن خلالها واشنطن من التوصل إلي اتفاق مع حكومة نيتانياهو علي تجميد البناء في المستوطنات لمدة شهرين؟.. والسؤال الثاني هو: هل يمكن التوصل إلي اتفاق حول حدود الدولة الفلسطينية في غضون مدة الشهرين؟ بالنسبة للسؤال الأول, نعم يمكن التوصل في غضون شهر إلي اتفاق أمريكي إسرائيلي يقضي بتجميد البناء في المستوطنات لمدة شهرين, فحسابات الحكومة الإسرائيلية التي تأخذ في اعتبارها مسألة رد الفعل الأمريكي المتوقع من الفشل في انتزاع تمديد التجميد, إضافة إلي المكاسب التي سوف تحصل عليها إسرائيل من وراء التجميد لمدة شهرين, ترجح التوصل إلي مثل هذا الاتفاق. وما يزيد من أرجحية هذا الاحتمال أن هناك مدة شهر كامل, تجري فيه أعمال البناء في المستوطنات اليهودية بشكل مكثف للغاية, ووفق برامج محددة يمكن إنجاز خطة البناء المقرر لها ثلاثة أشهر, في شهر واحد. ونعود إلي السؤال الجوهري الخاص بمدي إمكانية التوصل إلي اتفاق حول حدود الدولة الفلسطينية في غضون ثلاثة أشهر, هنا نقول إن مراجعة سوابق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وتحديدا مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي جرت في الفترة من11 إلي25 يوليو من عام2000, والمبادئ التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون كأسس للتسوية السياسية في23 ديسمبر2000, وأخيرا حصيلة مفاوضات الوفدين الفلسطيني برئاسة أحمد قريع والإسرائيلي برئاسة شلومو بن عامي في مدينة طابا المصرية في الفترة من21 إلي27 يناير2001 تقودنا إلي استنتاج محدد وهو أن هذه المفاوضات ناقشت قضية حدود الدولة الفلسطينية المستقلة, وأن هذه المفاوضات انتقلت من حديث عام بدأ في كامب ديفيد بمطالب إسرائيلية بضم نحو20% من مساحة الضفة الغربية إلي توافق مبدئي علي ضم نحو3.5% في مفاوضات طابا وذلك في سياق تبادل لم يتم الاتفاق علي أسسه ما بين مطلب فلسطيني أن يكون التبادل متساويا في المساحة وموازيا في القيمة, إلي مطلب إسرائيلي أن يكون المقابل أقل في المساحة والقيمة, تعويضا بأراض قبالة قطاع غزة, والممر الآمن بين الضفة والقطاع. ويمكن القول ان تركز المفاوضات في مدة الشهرين حول التفاوض علي مساحة الأرض التي سوف تضمها إسرائيل وتحديدها بدقة سيكون بمثابة المقدمة المنطقية لمعالجة موضوع الاستيطان وحل قضية التجميد حلا نهائيا, ففي حال الاتفاق علي حدود الدولة الفلسطينية ستدخل منطقة الكتل الاستيطانية الثلاث الكبري محل التبادل ضمن حدود إسرائيل, وهنا يكون لها الحق في مواصلة البناء في منطقة تقع داخل أراضيها, وتوقف الاستيطان في باقي أنحاء الضفة الغربية التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية الوليدة, بل إن مواصلة الاتفاق علي قضايا أخري ستعني بدء تفكيك المستوطنات دون الكتل الثلاث, ونقل سكانها المستوطنين إلي داخل الخط الأخضر. هذا في حال وجود رغبة صادقة لدي الحكومة الإسرائيلية بالتوصل إلي تسوية سياسية تعاقدية مع الفلسطينيين, تنتهي بقيام دولة فلسطينية مستقلة, وهو الأمر الذي لا ترجحه طبيعة التفاعلات الجارية في إسرائيل حاليا, فقد بدأت تتبلور توجهات معدة بإحكام من جانب حكومة نيتانياهو, تعمل علي استغلال الانشغال بقضية تجميد البناء في المستوطنات لانتزاع مكاسب بطريقة النقاط, وربما الفوز بإحدي الضربات المفاجئة. فالملاحظ أن الحكومة الإسرائيلية وعلي مدي الأيام الماضية أجازت تعديلات علي قانون منح الجنسية يلزم طالبيها من غير اليهود بأداء يمين الولاء لإسرائيل باعتبارها دولة يهودية ديمقراطية, ويخطط وزير الداخلية إيلي يشاي المنتمي لحزب شاس الديني لتعديل آخر قانوني يلزم المرشحين للانتخابات في إسرائيل بأداء نفس القسم, ومن ثم يكون مطلوبا من كل فلسطيني من عرب1948 يرغب في ترشيح نفسه في الانتخابات أن يؤدي يمين الولاء لإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية, وغيرها من خطوات تقود في النهاية إلي إلغاء مكانة عرب48 باعتبارهم مجموعة قومية, وربما الترتيب لصفقة تبادل سكاني: المستوطنين مقابل عرب إسرائيل أو سكان وأرضووضع مناطق الكثافة العربية في الجليل ضمن سياق تبادل الأراضي, ويكون التخلي الإسرائيلي عن الأرض هنا بما عليها من سكان, وذلك في سياق تطبيق وتنفيذ مقولة إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية, فهذه المقولة ستكون مبرر الحكومة الإسرائيلية لطلب تبادل أرض بسكانها مع الدولة الفلسطينية لأن عدد ونسبة العرب في إسرائيل مليون ونصف المليون يشكلون قرابة العشرين بالمائة من سكان الدولة العبرية يمثل تهديدا محتملا للطابع اليهودي للدولة, وهو الطابع المفترض الحفاظ عليه. المؤكد أن المفاوضات المباشرة تمثل فرصة سانحة لاستعادة الحقوق الفلسطينية وإقامة الدولة المستقلة, لاسيما في ظل عدم وجود بدائل حقيقية للمفاوضات, وأن البدائل الأخري سواء كانت التوجه إلي مجلس الأمن الدولي أو مؤتمرا دوليا للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة, ناهيك عن عملية بناء مؤسسات الدولة المستقلة وبنيتها التحتية, كلها تتطلب تفاعلات إيجابية مع اللجنة الرباعية وعلي رأسها الولاياتالمتحدة, ورغم ذلك ينبغي التحذير بشدة من أن يقود اللهاث وراء مجرد تجميد الاستيطان لمدة شهرين, إلي انتزاع تنازلات من الفلسطينيين السلطة الوطنية, وعرب48 غير قابلة للاسترجاع, ففي هذه الحالة سوف تزداد دوافع الحكومة الإسرائيلية لاستهلاك فترة الشهرين في مفاوضات شكلية, بعدها تبدأ هجمة استيطانية شرسة, وتبدأ الحكومة الإسرائيلية في تطبيق أفكار الانفصال علي الأرض عبر رسم خطوط التسوية من جانب واحد, وعندها سوف تبدو السلطة عاجزة أو تتعرض للانهيار أو تعم الفوضي الأراضي الفلسطينية إلي الشرق من جدار الفصل العنصري, وتخسر قوي الاعتدال حججها ومواقعها لصالح قوي التشدد والتطرف. من هنا لابد أن تدرك السلطة الوطنية أن القضية أكبر من مجرد تجميد البناء في المستوطنات لمدة شهرين, بل هي رؤية شاملة للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني والتي تنتزع بأدوات وأساليب مختلفة وينبغي ألا تعطي الأولوية لأداة من الأدوات علي حساب الهدف الأسمي وهو تحرير الأرض وإقامة الدولة المستقلة والحفاظ علي الحقوق المشروعة للفلسطينيين.