تمر علي المنظمات الإقليمية والدولية مراحل صعود وهبوط وفتوة وضعف وتفكك, وحلف الناتو منذ نشأته في4 أبريل1949 قد مر بمراحل تاريخية مختلفة, تعرض فيها لاختبارات عسيرة. نجح في معظمها بسبب اقتناع القائمين عليه بأهمية عملية التكيف, ليس فقط مع المتغيرات السياسية والأمنية, ولكن أيضا مع عناصر أخري ومستجدة صبغت العالم بتأثيراتها منذ بداية القرن الحادي والعشرين, ومثال ذلك العولمة والتكنولوجيا والتيارات العقائدية والدينية, ولولا أن الحلف قد راجع دوره مع نهاية الحرب الباردة, لكان قد سقط في مقبرة التاريخ, واختفي تماما من فوق المسرح العالمي. وبالفعل مرت علي الحلف لحظات كان أعضاؤه حياري في تعريف دوره ورسم سياساته خاصة بعد انهيار حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي وتحلل حلف وارسو, إلي أن اكتشف المعسكر المنتصر في الحرب الباردة, وفي الصدارة منه الولاياتالمتحدةالأمريكية, أن دورالحلف لم ينته بعد, بل لعل دوره الحقيقي قد بدأ ولكن من منظور جديد. أمام الجراح المفتوحة, والفوضي المتوقعة, كان ولابد من التعامل مع منطقة شرق أوروبا بمبادرات جادة وحاسمة حتي لا تتحول إلي ساحة تفكك وصراع, فأغلق الجرح الأول بتوحيد ألمانيا في3 أكتوبر1990, وتسارع بعد ذلك انضمام دول أوروبا الشرقية إلي الحلف في سنوات1999 و2004, وانضمام ألبانيا وكرواتيا للحلف في2009, وصل عدد دول الحلف إلي28 عضوا, وخلال تلك الرحلة الطويلة التي تقاطع معها تدخلات الحلف العسكرية في منطقة البلقان وكوسوفو, بدأ التفكير في إطلاق حوار سياسي وأمني بين الحلف ودول جنوب وشرق المتوسط, فكان حوار الناتوالمتوسطي في1994, ثم انطلق حواره مع بعض دول الخليج في2004, إلي أن قام بأول عملية عسكرية له خارج أوروبا في أغسطس2003 ومازال متورطا فيها حتي الآن. وإيمانا من الحلف بتجاربه السابقة في التكيف,وخلال قمته في ستراسبورج في أبريل2009 كلفت القمة أندروز فوج راسموسن السكرتير العام بتكوين مجموعة من الخبراء علي مستوي عال من خارجه لوضع مفهوم استراتيجي جديد للحلف, والمقصود به كيفية تعامل الحلف مع التحديات الجديدة والمتغيرات المتوقعة خلال العقد القادم, واستقر الاختيار علي تكليف مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة السابقة ومعها جيرون فان درفير من هولندا كنائب لها في رئاسة المجموعة وممثلا للجناح الأوروبي للحلف, وقد شارك فريق العمل خبراء ومستشارون من معظم الدول الأعضاء,وبدأ عمل المجموعة في24 سبتمبر2009 وقدمت أولبرايت تقريرها الأول إلي مجلس الحلف في24 نوفمبر2009, وسوف تعرض تقريرها النهائي علي قمة الحلف في لشبونة البرتغال في نوفمبر2010. يمكن القول إن حلف الناتو في مطلع العقد القادم قد استشعر أنه في حاجة إلي مفهوم استراتيجي يجدد به رؤيته للمستقبل, ويحدث من خلال أسلوب العمل ومستويات الأداء, لأن مفهومه الحالي يعود إلي عام1999, حيث تحديات11 سبتمبر وما تلاها من خروج للحلف من أوروبا والأطلنطي إلي مناطق جديدة, تتطلب قدرات وعلاقات ومعلومات واستخبارات مختلفة, ويبدأ المفهوم الاستراتيجي الجديد بتأكيد التزام الحلف بالدفاع عن أعضائه طبقا للفقرة الخامسة من معاهدة الحلف, وفي الحقيقة قد يبقي الالتزام بالدفاع الجماعي, لكن طريقة تنفيذه سوف تتغير في المستقبل بمشاركة أعضائه الجدد, وبما يمتلكه من قدرات عسكرية جديدة وبقيامه بتدريبات مشتركة منتظمة بعيدة عن الحسابات غير الدقيقة والمتعجلة. وتمثل العمليات العسكرية للحلف في أفغانستان تحديارئيسيا غير نمطي ضد قوي لا يمكن اعتبارها من منظور الحلف بمقاومة وطنية, فقوات الحلف مكونة من عدد كبير من الدول قررت الوقوف مع الحكومة الأفغانية المنتخبة ضد طالبان وبتأييد من الأممالمتحدة, ويحرص الحلف علي الاستفادة من تجربة أفغانستان في قياس مستوي التضامن بين القوي الدولية المشاركة, وتزايد الرغبة في العمل تحت قيادة موحدة واحترامهم لأهمية التخطيط الجماعي المحكم والشامل, وكذلك قبولهم لتحديد الاشتراك في عمليات تتطلب نشر قوات علي مسافات بعيدة ولفترات زمنية ممتدة,وكذلك التعامل مع المسائل الاستراتيجية المعقدة من منظور شامل يشارك في بنائه الجميع. وبرغم أن الحلف قد توسع في عضويته من16 عضوا في بداية التسعينيات إلي28 عضوا حاليا, إلا أن الباب مازال مفتوحا لكل من يستوفي شروط العضوية, ويمثل مبدأ الشراكة إطارا مرنا بين الحلف ودول أخري ليست أعضاء فيه, أو ليست راغبة في العضوية حتي ولو استوفت الشروط ومازالت روسيا تمثل تحديا بالنسبة للحلف برغم أنه قد حاول استيعابها علي المستوي الأوروبي, وهناك مجلس مشترك بين الحلف وروسيا, إلا أنه لم يفعل بالقدر الكافي حتي الآن, وفي إطار المفهوم الاستراتيجي الجديد من المتوقع أن يؤكد الحلف رغبته في تقوية العلاقة مع روسيا, في أكثر من ميدان وتنشيط التعاون المشترك في مجالات الحد من التسلح, ومقاومة الإرهاب والدفاع الصاروخي, وكذلك في التعامل مع الأزمات وعمليات حفظ السلام والأمن البحري ومكافحة المخدرات. ومنذ نشأة الحلف وهو يمتلك قوات نووية من خلال بعض أعضائه, ومازال الحلف مسئولا عن نشر وتأمين هذه القوات في حالات الطوارئ بالتنسيق مع باقي دول الحلف, ومن زاوية أخري سوف يعمل الحلف في المستقبل علي منع انتشار الأسلحة النووية علي مستوي العالم, بالاضافة إلي تحقيق أمان المواد النووية, وبالتوازي مع ذلك يؤكد الحلف خفض أعداد الأسلحة النووية التكتيكية وإزالة أعداد كبيرة منها خلال السنوات القادمة, ويمثل التهديد الصاروخي هاجسا دائما بالنسبة للحلف, فقد اتسع نطاق استخدام الصواريخ في الحرب وزادت قدراتها علي حمل أنواع مختلفة من الرءوس التقليدية والكيماوية والبيولوجية والنووية ولمسافات بعيدة. وهناك كثير من دول الحلف مهددة بالصواريخ من دول أخري خارجها. ومع تطور القدرة الصاروحية لإيران أصبحت تمثل تهديدا لبعض الدول الأوروبية, وهناك قوات لعدد من أعضاء حلف الناتو مازالت منتشرة في أماكن ليست بعيدة عن مدي الصواريخ الإيرانية, لذلك حول الحلف دفته في اتجاه تأكيد التعاون بين أعضائه في مجالات الرادار والسيطرة والدفاع الصاروخي علي المستويين الوطني والإقليمي مع التأكيد المستمر علي إجراءات بناء الثقة. ويحرص المفهوم الجديد للحلف علي الاهتمام بالتهديدات غير التقليدية والتي لم تكن تؤخذ في الاعتبار برغم مضارها الواسعة, ويري الناتو أن المؤسسات ذات الطابع العسكري يمكنها أيضا المشاركة مع المؤسسات المدنية في مواجهة هذه التهديدات غير التقليدية والحد من آثارها بدون أن تتبني خططا أو سياسات لمنظمات أخري, وهذا ما فعله الحلف في مواجهة أحداث الزلازل في أفغانستان منذ سنوات, وكذلك في كارثة الفيضانات الحالية في باكستان, وبالاضافة إلي ذلك يجب ألا تترك البحار والمحيطات تحت تهديد القراصنة حتي ولو كان تأثير جرائمهم محدودا حتي الآن. ولاشك أن الحلف بتنوع قدرات أعضائه يواجهون تحديا جديدا في مجالات الحرب الالكترونية وعلاقتها بوسائل القيادة والسيطرة, وامكانية تعرض هذه القدرات لهجوم وتهديدات الكترونية بغرض شل المنظومة كلها, وينظر الحلف إلي الوجه الآخر لتكنولوجيا المعلومات, وما يمكن أن ينتج عنها من مخاطر وضرورة ادخال اصلاحات جوهرية جماعية في هذا المجال, ويري الحلف أنه من خلال الثورة التكنولوجية في نظم المعلومات يمكن توظيفها في ادخال اصلاحات إدارية قادرة علي تحقيق سرعة في مجال اتخاذ القرار, وانجاز النتائج المرجوة بأقل تكلفة ممكنة, بعد أن وصم الناتو خلال تاريخه ببطء اتخاذ القرارات, وبيروقراطية التنفيذ, كما يري الناتو أن تخطيطه للمستقبل لابد أن يكون مقروءا من الجميع, فلن تقتصر قراءة وتحليل وثيقة مفهومه الاستراتيجي الجديد علي أعضائه فقط, ولكن ستكون متاحة للجميع. [email protected] المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد